فهي إذن ثمرة لإرادة السلطة الأموية في العراق ـ بمعنى إرادة الحجاج ـ في التخلي عن البيئة العربية المحيطة به ، وإنشاء مقر للحكم والاحتلال أو نحوه ، في محيط معاد. الواقع أن واسط قامت إلى جانب حاضرة أهلية قديمة هي كسكر ، وحافظت على تميزها فأنشئت على شاطىء دجلة الغربي ، في حين أن المدينة القديمة كانت تقع إلى الشرق. إنما جرى الإبقاء على ما كان من صلة بينهما ، فشيد جسر من المراكب ، وثبتت وحدة المدينة بتمامها شيئا فشيئا ـ أي المدينة القديمة والجديدة ـ وتراكبت هكذا على النهر كما كان الأمر في بابل (١). على أن مدينة الحجاج حافظت مدة على ذاتيتها التي كان السور يرمز إليها ويجسمها (٢). ولم يكن للمدينة الجديدة إلا أن تأخذ بعين الاعتبار التجربة الحضرية التي استوعبها العرب بوادي الرافدين. كان جهد البناء هاما ، وقد تجاوز المحاولات الأولية وهيأ للأعمال الكبرى الأولى في العمارة العربية التي سيدشّنها الوليد. ولقد أتى هذا المجهود في فترة تأكيد الذات في الميدان الفني ، في فترة تحول طرأ على الحضارة العربية الباحثة عن أسلوب لها ، ومجد تسجله على الحجر أو الآجر. فظهرت القبة الخضراء المعروفة (٣) التي قلدها المنصور فكانت حدثا فنيا مع أن قبة الصخرة سبقتها في الوجود. هذا وإن بنية النواة المركزية كانت من النوع الكوفي : كان القصر يفتح على المسجد ، وقامت غير بعيد من ذلك أسواق متخصصة (٤). مع الفارق أن البناء تم على نطاق أعظم ، ولا شك أنه كان أكثر تهذيبا. كانت أقيسة القصر المربع (٥) ، ٤٠٠ ذراع* ٤٠٠ ذراع ، وكان المسجد أصغر من ذلك (٢٠٠* ٢٠٠). إن هذه الأقيسة مساوية تماما لما سيتم في بغداد وأكثر مما كانت عليه في الكوفة. كانت السوق غير بعيدة عن القصر ، وعالية التخصص (٦) وقيل أنها كانت متسعة كثيرا. لكن عدد الصنائع المذكورة في المصادر غير هام جدا (٧) ، وهذا دليل واضح على الفارق الموجود بين الأهداف التي قصدها الحجاج وواقع الاستقرار.
وقد فرضت الأمور تسلسلا مع الكوفة ، في تصور المركز هذا. لكن كافة الأشياء
__________________
(١) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ؛ ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص ١٨٧.
(٢) كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ، تحدث المؤلف عن مدينة قديمة ومدينة جديدة وعن إحاطة السور بالمدينة الجديدة فقط. ومن المعلوم أن ابن هبيرة قاوم فيها حصارا مضروبا عليها. وتحدث بحشل عن سورين وخندق : ص ٤٣ ، وذكر ياقوت خندقين وسورا : مادة «واسط».
(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٨٨ ؛ كتاب البلدان ، ص ٣٢٢ ؛ الأعلاق النفيسة ، ص ١٨٧. ولم يرد ذلك في كتاب التاريخ.
(٤) التاريخ ، ص ٤٣.
(٥) ياقوت ، مادة واسط ؛ Grabar, art. cit., p. ٥٠١; Lassner, ouvr. cit., pp. ٣٣١, ٩٨١
(٦) التاريخ ، ص ٤٤ : معلومات هامة.
(٧) ذكر بحشل عشر صناعات ، وكان التفوق للصرافين.