المتعلقة بامتداد الأقيسة والبحث عن المظهر العظيم والمترف ، توحي باستيعاب أكثر رقة للمكاسب السابقة كما توحي بالذات بوعي للحضارة العربية وهي بصدد التكوين ، وبترجمة معمارية عن شعور بالقوة ، فيما كانت منطقة الشام وفلسطين توحي بالبحث عن الجمالية والجمالية فحسب. فهل كان ذلك بمثابة عودة أكثر وضوحا إلى المثال الآشوري ـ البابلي الذي ساعدته ظرفية الدفاع والصراع؟
إن الظاهرة الجديدة في واسط بالمقارنة مع الكوفة والبصرة ، هي أن يشيّد خط مضاعف من الأسوار ، وخندق ، وأن توجد أبواب جيدة الحراسة (١). هذا احياء لبابل وصورة مسبقة لبغداد أيضا ، كأن واسط أرادت أن تمر من فوق مرحلة الأمصار الصرف (٢) لوصل الحاضرتين الكبيرتين بوادي الرافدين. كانت الكوفة الأولية والأموية مدينة مفتوحة فعلا. ولم ترض ، شبيهة في ذلك باسبرطة ، بسور سوى ذاك الذي ترفعه سيوف أبنائها. لقد تبقى فيها ما يشبه الشعور بالحرية العربية ذاتها ، حرية المقاتلين المتأهبين للهجوم ، لا سيما حرية البدو المولعين بروح الصحراء. ولعلهم كانوا يتبرمون من العيش المدني ويختنقون فيه اختناقا ولعلهم كانوا يتصورون أي سور كحائط سجن يحبسهم بصفة لا تطاق. ولعل امتناع المصرين من قبول النظام الاستثنائي ، نظام الرقابة وحظر التجول ليلا ، الذي شرع زياد في تطبيقه (٣) وتمادى فيه الحجاج ، هو الذي جعل هذا الأخير يقدم على الفصل بين مقر الحكم والسكان العرب. إن التمييز بين المجتمع والسلطة هو وحده الذي يفسر تشييد الأسوار في واسط كما في بغداد ، وليس الخطر الخارجي (٤). بقي أن يجري التنقيب عن نموذج في الحضارات السابقة ...
في البداية ، تماثل المجتمع بالشعب العربي من مهاجرة الكوفة والبصرة. كانت أمة من المقاتلين تشعبت تشعبا عميقا بذاتيتها بالنسبة لجهاز الدولة الذي اعتبرته طفيليا باستمرار. وهناك أيضا عالم أهل السواد ، الذي منع عليه الحجاج التسرب إلى الحاضرة العربية. لذا اختير السكان العرب في واسط اعتمادا على ما أبدوه من ولاء ، فتكونوا من أهل الشام ومن عدد من أهل الأمصار المنتخبين (٥) ، والرأي عندي أنهم كانوا قليلي العدد ولم يشكلوا مجموعة حضرية منسجمة ومتميزة في آن. أما أهالي السواد ، فقد حظّرت عليهم
__________________
(١) تاريخ واسط ، ص ٤٦.
(٢) المرجع نفسه ، ص ٤٥ ، حيث يدور النقاش لمعرفة ما إذا كان لواسط خاصيات المصر ونظامه.
(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢١٧ وما بعدها.
(٤) كان يجدّ ذلك بعد نشوب الثورات الداخلية : ثورة ابن الأشعث ، واضطراب الراوندية ، وانتفاضة محمد بن عبد الله الحسني.
(٥) بحشل ، تاريخ واسط ، ص ٤٤.