كعبس والأشاعرة بصورة استثنائية ، علاوة على أن الخطط تتحمل على عكس ذلك وظائف عسكرية قائمة على دور السكك والجبّانات ، وهذا تراكب تنويعي. ويتضح الثراء الممتاز في الأجهزة والعناصر المكونة للمركب المدني كله. فتجاوزا للتقسيم الثنائي أو الثلاثي ـ إلى مركز وخطط ومحيط يستثني الضاحية ـ نلاحظ وجود تعددية وتنوع كبير في الأجهزة والمواضع من قبيل : المسجد الجامع والقصر ومساجد العشائر والجبانات والصحاري والأقنية والحمامات والسكك والأزقة والكنائس وأماكن العبادة في الهواء الطلق (مصلى خالد) ودور الاشراف ، وأيضا دور لعامة الناس وهي البيوت ، ودار الروميين ، ودار الضيافة ، والأسواق المركزية ، والكناسة والسبخة ودار الرزق ، وجسر السفن والقنطرة ، والرحبة التي صارت امتدادا جزئيا للمسجد الجامع في ولاية يوسف بن عمر. وفي الجملة هو عالم مدني مهيأ مركّب بعيد عن كل التصورات المقامة على فكرة البساطة البدائية ، سواء صحت أو كانت محض خيال. لا شك أن هذا التطور في سبيل التنوع حدث بدافع الاحتياجات ، كما حدث بفضل القوة الخلاقة المنطلقة بصورة طبيعية وبطول المدة في كل مجموعة بشرية تحررت من البحث عن الغذاء. لكن حضور التقاليد الحضارية المتعددة ، منها تقاليد كانت موجودة قبل عند العرب ومنها ما استبطنوها ، وكذا الدفع من إرادة منبثقة عن حكم مركزي قوي ، كل هذا أمر لا يقل حسما. لقد دام هذا العمل التركيبي العظيم قرنا من الزمن ، لكن دون الوصول إلى تأسيس أكثر من هيئة أولية للمدينة الإسلامية ونموذج استبقى منه المستقبل الأشكال الاسلامية أو الشرقية ـ الإسلامية أكثر مما استبقى الإرث العربي المحض بوجهيه العربي ـ الشمالي واليمني. وبعد ، فإن أهمية الكوفة تكمن ، وأكثر من البصرة ، في كونها تمثل لحظة عبور وتحول من العروبة القديمة إلى الإسلام المهيكل ، هي في الحقيقة لحظة كانت تبحث فيها الحضارة الإسلامية عن نفسها في ظلام الولادة والتكوين. لحظة ذات أهمية مؤكدة بالنسبة للمؤرخ ومحيرة اطلاقا بالنسبة للخيال العادي.
لم تدمّر الكوفة بيد المغول ولا بحديد تمرلنك وناره ، بل دمّرها النهب الشديد الذي قام به بدو الجزيرة العربية : قرامطة ، شمّار ، خفاجة. لقد بناها العرب ودمّرها العرب. إنها بعد الآن مدينة ميتة لم يبق منها سوى بعض الآثار المتأخرة عموما ، لكنّها عكست قدسيّتها الشيعيّة على النجف التي يتقاطر إليها الألوف لزيارة العتبات المقدّسة ، ضريح عليّ.
فيا لسخرة التاريخ أو يا للقدر المشؤوم! مدينة يبنيها شعب ويقتلها هذا الشعب نفسه ، لا في سورة غضب واهتياج ، بل بهجمات خارجية متتالية كما لو كان الأمر متعلّقا بمدينة أجنبية ومكروهة ، يجب نهبها وتحطيمها. وفي هذا جاذبيّات جيو ـ بيئيّة وتاريخيّة تفتن الألباب بتواصلها أو بتكرارها : الصحراء خطر دائم على السهل الطميّي ، والقبيلة صارت