مجدّدا العدو المميت للمدينة. إن توحّش البداوة هذا الذي تمعّن فيه ابن خلدون ، يكشف عن انهيار أول شكل ارتدته الحضارة العربية والإسلامية : حضارة القرون الخمسة أو الستة الأولى. وصار تاريخ الكوفة تاريخ تحوّلات العروبة بالذات : بادىء الأمر ، عروبة منتظمة ، منضبطة ، شديدة التأطر بالدين الجديد ، متمدّنة ، منبنية ، ثم عروبة منفلتة ، حبلها على غاربها ، فتيّة ، شرسة ، هدّامة ، لا ميزة لها سوى حفاظها على هويّتها ، بينما تأسست عروبة الكوفة وكذلك البصرة ، على أساس الحضارة الإسلامية بقدر ما غرقت في بلاد رافدين استعربت أو تعرّبت بفضلها. ومنذ أن استبعد العبّاسيون أهل الأمصار من العطاء ، نشهد انبثاثا للحضريين العرب في السّواد ، نشهد ترييفهم ودخولهم الكثيف في الحياة التجارية والزراعية. وتاليا تغذّى تعريب العراق من غذاء كوفة متفجرة ، كما تعيّن على الثقافة الاسلامية المأثورة جدا ، أن تعتاش من جهد شرّاحها ونحوييها وفقهائها. ومحل الكوفة العسكرية ، والمطبوعة أيضا منذ البداية بطابع مدينة كبرى بتوجهها ، حلّت في القرن الثاني والقرن الثالث مدينة مسالمة وثقافية ، مطبوعة بالطابع الشيعي في أعماقها الاجتماعية ، قبل أن يستوعبها التشيّع استيعابا كاملا. والحال ، في خضم الحوادث الكبرى ، كانت في القرن الأول الممثلة والمسرح الذي نهل منه إسلام الفرق معنى لبنائه الذاتي.
مركز الهجرة العربية إلى بلاد الرافدين ، موقع أساسي لتثبيت وتوسيع الفتوحات التي ستقوم بتشكيل المجال الإسلامي شرقا ، مختبر تجربة تعايش القبائل العربية المتحضرّة ، مشاركة بقوّة في الصراعات السياسية ـ الدينية للإسلام الأول ، هكذا كانت الكوفة ما قبل العصر العبّاسي. وهي التي انكببنا على ترميمها في بنيتها الحضرية. يبقى أن يواصل هذا الجهد بدراسة اجتماعية وسياسية. ولكن ، كما رأينا بوضوح ، لا يتعلق الأمر بدراسة مدينة ما ، بل يتعلق بدرس مدينة نشأت فيها وتحدّدت حضارة كبرى ، ولا يتعلق بمدينة مستقلة بل بواحد من أكبر المراكز في امبراطورية شاسعة. وفي كل المستويات ، تتماهى دراسة الكوفة مع دراسة الإسلام العربي الذي كانت رمزا لقوته الاتساعية في زمن أول ، ولقدرته على البذل الثقافي والاجتهاد في زمن ثان.