سيف في روايته المستندة في هذا المقام إلى مجالد بن سعيد والشعبي ، في آن واحد على متانة القيادة الإسلامية والطابع العربي القومي للمواجهة النفسانية ، وعلى الدور الفعلي المتفوق الذي لعبه القادة التقليديون المرتدون الذين صاروا يجسمون القيم الحربية العربية. وقد قلنا إن روايته للاستعدادات لمعركة القادسية لم تتجاهلهم ، بل يبدو أنها وضعتهم في المقدمة. لقد انتزعت من رؤساء القبائل القيادات الكبيرة كافة ، لكنهم لعبوا دورا حاسما في التعبئة النفسانية ، وأجروا المحادثات مع العدو وتولوا فعلا قيادة أفراد قبيلتهم في الهيجاء (١). فهل كان ذلك تشويها متحيزا عن وعي أو بدون وعي كما أكد كايتاني ، أم كان تحويلا طرأ على واقع الأمور ، أي تجسيما لعودة القوى الحقيقية ومحاولتها زعزعة الهيكل المؤسساتي؟ لا شك في تضافر الأمرين. إن روايات سيف دقيقة وملحمية في آن ، وهي مطبوعة بالشمولية والانتقائية على السواء ، فالدقة تحملها على عدم تجاهل إرادة عمر الجازمة على إقرار تأطير إسلامي على أوسع درجة وانتقائيتها تحملها على تناسي الرجال الذين كانوا دعامة لتلك القيادة. كما أن رواية سيف اتصفت بالملحمية لأن هذا المؤلف أعطى المرتبة الأولى لأعمال الذين أسسوا استمرارية تاريخية في العراق ولا سيما في الكوفة. لكن الصحيح من جهة أخرى أن جيش العراق باستثناء فترة خالد وأبي عبيد كان مركبا في الواقع وعلى الدوام من عناصر بدوية من خارج الحواضر الإسلامية ، وهي لعمري ظاهرة اتسعت مع سعد ، فلا عجب بعد ذلك أن يتناسى ويتجاوز قادة القبائل سلطة المدينة ؛ ومن يدري ، لعل عمرا اجتهد بغية محاربة الفرس ، من أجل النهوض بالقوى العربية الصرف ، شريطة أن تخضخ هذه القوى للمثل الإسلامية المطروحة كهدف أسمى؟
وقد روى سيف أن عمرا أراد مواجهة الفرس بأفضل العرب ، بمعنى أبطالهم وخطبائهم وشعرائهم. ولعله سمح لبعض قيم الجاهلية بالعودة إلى النشاط ولا سيما القيم التي لم تكن تعارض الإسلام إلا قليلا. كان ذلك نتيجة منطقية للانفتاح على الردة والاختيار الأساسي المتمثل في تفضيل الفتح الواسع على الفتح المحدود ، وتوسيع الإسلام بدل تعميقه. وقد لاحظ سيف وجود رجال من أهل الشجاعة ـ على رأسهم عمرو بن معديكرب وطليحة ، وقيس بن هبيرة ـ ورجال من أهل الرأي ـ كالمغيرة بن شعبة وحذيفة ، وعاصم ـ وشعراء ـ كالشماخ ، والحطيئة ، وأوس بن المغراء ، وعبدة بن الطبيب (٢).
__________________
(١) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٥١٤ ، ٥٣٢ ، ٥٣٣ ، ٥٣٧ ، حيث تنسب الروايات لعمرو بن معديكرب دورا بطوليا كان قام به في يوم أرماث ، وفي ص ٥٥٧ ، حيث نرى عودة عمرو وطليحة إلى الظهور يوم عماس ومبادرتهما بأعمال ظرفية في القتال.
(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٣٣. روى أن المغيرة جاء من الأبله : الدينوري ، ص ١١٨ ؛ والبلاذري ، ص ٢٥٦. ولعلّ وضع أبي محجن الشاعر يستند إلى عملية عصيان في وجه سعد ، وقد أفاضت المصادر في رواية موقف هذا