المعسكر البدوي الطابع إلى المدينة المشيّدة ، الواضحة والعملية ، وهو تطور اكتمل في العصر العباسي ، بالنظر إلى حالة النضج التي بلغتها الحضارة العربية الإسلامية في ذلك العصر ، والتي كانت الكوفة أحد مهديها الأساسيين. وعلى امتداد القرن الأول الهجري/القرن السابع الميلادي بقيت الكوفة مكشوفة الأمداء ، لا تحيط بها أسوار ، مفتوحة على البادية العربية ، يشهد على ذلك حركة الناس ، وكثرة الشعراء وحضور النمط البدوي القويّ فيها. ولا يمكن فهم تحوّلها الذي لا ينكر إلى الحضرية والمدينية ، بنجاح وسرعة ، من دون حبل السرة الذي ظلّ يصلها بالجزيرة العربية؛ فعرب الكوفة كانوا مستقرين ، قطعوا كل صلة لهم بنمط عيش البداوة والترحّل. وتلك هي المرة الأولى التي ينجح فيها العرب في تأسيس مجمّع مديني بهذه الضخامة ، ليكون بمثابة بؤرة تتعايش فيها وتتفاعل نماذج وعينات مختلفة ، تفد إليها من جميع أنحاء الجزيرة العربية. على الصعيد المديني ، تعرضت الكوفة لتغييرات عميقة في العصر العباسي؛ فالخلفاء العباسيون الأوائل كانوا ينوون جعلها عاصمة لخلافتهم ، فأقاموا فيها فترة وجيزة من الزمن. غير أن تعاطف هذه المدينة العام مع علي والتيار القوي المؤيد له فيها ، جعلهم يترددون بينها وبين الأنبار ، ومدينة الهاشمية الجديدة ، المتصلة بقصر ابن هبيرة ، وذلك قبل أن يبني أبو جعفر المنصور مدينة بغداد ، العام ١٤٥ ـ ١٤٦ ه٧٦٢/ ـ ٧٦٣ م ، التي نقل إليها من الكوفة بيت المال والدواوين الإدارية (البلاذري ، فتوح ، ٢٩٣). وهذا يعني أن الكوفة لعبت دور العاصمة الإدارية للخلافة العباسية ، حتى ولو لم يكن الخلفاء العباسيون يقيمون فيها على الدوام.
خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث عشرة سنة (١٣٢ ـ ١٤٦ ه٧٥٠/ ـ ٧٦٣ م) اصطبغ جزء من الكوفة بصبغة إيرانية بعد أن تدفق عليها الجنود الخراسانيون : شارع لحّام جرير ، مثلا ، وشارع حجّام عنترة ، وإطلاق تسميات على مفترقات الطرق بالأسلوب الإيراني : كشهرسوج (C?aharsu?dj) بجيلة مثلا(البلاذري ، فتوح ، ٢٨٠). من جهة أخرى ، بنى العباسيون الأوائل في الكوفة ، الرصافة وقصر أبي الخصيب. وبعد ما انتقل أبو جعفر المنصور إلى بغداد ، شيّد سورا يحيط بالمدينة وحفر خندقا يلتف حولها ، فارضا على أهل الكوفة تحمّل أعباء هذا المشروع ونفقاته. ولربما كان هذا السور لا يشمل الكناسة وبعض الجبانات المنحرفة الموقع ، فبدأ التمييز إذذاك بين المدينة وأرباضها. إن كلمة مدينة ، بمعنى النواة الحضرية المركزية ، تاريخيا ، المنشأة ككتلة واحدة والمحميّة بجدران تسورها ، وتتخللها بوابات ، نجدها عند الطبري ،