في ما يرويه عن ثورة ابن طباطبا(العام ١٩٩ ه٨١٤/ م). ويشير الطبري نفسه إلى أن الكناسة كانت تضمّ منازل سكنية ، كما أنه يستخدم كلمة أرباض VIII) ، ٥٦١)أي الضواحي. هنا نجد أنفسنا أمام تحضير الكوفة بكل معاني الكلمة : فقد غدت مدينة إسلامية نمطية(كلاسيكية) ، بعد ما كانت مدينة/معسكرا عربية ، أي أنها غدت مركزا حضريا بعد ما كانت مجمّعا عسكريا. وأخيرا ، طوال القرن الثالث الهجري(القرن التاسع الميلادي) ، بقيت الكوفة عربية الطابع ، لكن سكانها بدأوا يتحولون إلى خليط من العرب والسواديين ، وهم أهل السواد الذين أخذوا يدخلون في الإسلام. على أن المسألة تكمن في معرفة ما إذا كانت الكوفة ، وهي مدينة في ذروة مجدها ، قد فقدت فقدا تاما طابع المدينة الرحبة الفسيحة ، لتغدو مدينة تشبه تلك المدن الإسلامية التي بنيت في أزمنة لا حقة ، حيث باتت المدينة كتلة من المنازل المتلاصقة الخانقة. ولا نعتقد ذلك ، لأن الجغرافيين الذين عاشوا في زمن لاحق ، أمثال المقدّسي ، ثم ابن جبير ، في ما بعد(وقد كتب ابن جبير في زمن كانت فيه المدينة قد انهارت تماما) ، ذكروا مساحات خضراء واسعة وبساتين غنّاء في قلب المدينة. كما أن هؤلاء الجغرافيين أنفسهم تحدّثوا عن امتداد الكوفة ، لناحية الغرب ، إلى أبعد من حدودها الأولى ، كما تدل على ذلك أيضا بقايا آثار تمتد حتى النجف. إنما لم تعد الكوفة مركز إشعاع للإسلام الأول ، إسلام الفتح العربي الظافر ، بل غدت مدينة من مدن العراق المهمّة وقصبة ولاية إدارية.
إن ترييف مدينة الكوفة ، لا بل انحطاطها ، أصبح أمرا واقعا في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. فقد أخذ التنظيم البنيوي القديم(الأرباع العسكرية ، الروح القبلية ، النظام المالي)يضمحلّ ويتلاشى. وذلك لأن الصرح الذي بناه الفتح بالقوة العربية ، والذي لم تكن الكوفة سوى تجسيد له ، أخذ يشيخ ويلفه الإهمال ، في حين أن الخليفة المتربّع على قمته كان ألعوبة في يد البويهيين ، وفي وقت بدأت فيه الانقسامات تدبّ في كيان العالم الإسلامي وتهدد وحدته. لذا ، لم يكن تقهقر الكوفة إلا تعبيرا عن هذا التغير العميق الذي لم ينفع النشاط التجاري الواسع بين أطراف العالم الإسلامي المترامية ، في تعزيزه وإطالة أمده ، قرنا أو قرنين من الزمن ، كما في البصرة. كان يمكن الكلام على أزمة المدينة الإسلامية(ماسينيون) ، لو لا أن الأزمة كانت شاملة أصابت الإسلام الأولي بوصفه دولة ومجتمعا ، أو بالأحرى بوصفه حضارة. أو ربما كان ثمة ما هو أكثر من ذلك : أي ، تحول تاريخي لم يكن هناك بدّ من أن تدفع ثمنه مدينة كالكوفة.