البارزين ذو الكلاع الحميري (١). في وجه الطموح المضري إلى اكتساب شرعية تاريخية بالنبوّة والهيمنة اللغوية ، نهض طموح آخر لاكتساب هذه الشرعية ، يستند إلى العظمة التاريخية القديمة والملوكية والحضارة. فمجرد كلمة يمن ، كانت كافية وحدها ، بما تختزن من رفعة وسمو قدر ، لتفرض نفسها قطبا آخر للعروبة. وثمة رجال من هذا اليمن كانوا هناك لشحذ هذا الوعي التاريخي ، أو لتكوينه لدى قبائل أقلية وقديمة مستقرة في جوار قبائل كبيرة تزعم اليمنية لنفسها (قبيلة كلب ، مثلا) ، وكانت تلعب دورا في التاريخ الجديد. فالدور الذي كانت تلعبه قبيلة كلب في الشام / الجزيرة ، لعبته قبيلة الأزد في البصرة وخراسان. بمقدار ما كانت البنية الاجتماعية الاقتصادية في الكوفة تخلو من شيء يحفز التضاد بين الكتلة اليمنية والقبائل المضرية (أسد ، تميم) (٢) ، وبمقدار ما كان الكوفيون كلهم يجدون أنفسهم مبعدين عن المشاركة في سلطة الحكم المركزي ، كانوا يجدون أنفسهم في منأى عن صراع يرفع راية اليمن ، في كل مكان لا يكون فيه في الواقع لليمنيين الأقحاح إلا وجود ضئيل. ولكن كم كانت كبيرة الخدعة التي عادت بعد قرون فسحبت نفسها على اليمن بالذات ، لأن الهمداني وآخرين نادوا ، بسذاجة ، بوعي يمني مشوّه. وقد تكون العصبية أسهمت ، بمفارقة مدهشة ، في تعزيز الوعي القومي لدى العرب ، وفي إغناء وعيهم التاريخي ، بإغناء تراثهم بهذه الملاحم ، وبترسيخ شجرة أنسابهم إلى الأبد (٣).
IV ـ دور اليمنيين الحضاري والثقافي
يمكن الاعتقاد بأن اليمنيين قد أسهموا ، في ما يتعدى الدور الذي لعبوه في بناء الوعي التاريخي العربي ، إسهاما أكثر وضوحا ، في إغناء الحضارة العربية الإسلامية ، بحكم تجربتهم الحضارية العريقة. وهذه فرضية معقولة ، على الرغم من القطيعة التي حصلت منذ ما قبل الإسلام ، في الحضارة اليمنية ، وعلى الرغم
__________________
(١) ذو الكلاع ، الذي تصوره قصيدة قديمة أنه سيد اليمنيين ، يقاتل معهم ، إلى جانب معاوية في صفين : ابن منظور ، لسان العرب ، طبعة بولاق الأولى ، ٥ ، ص ٢٥٢.
(٢) كانت هناك عداوة عميقة بين همدان وتميم. يوضح أنساب الأشراف (مخطوط باريس ، ص ٤٤٨)أن الكناسة مكان يظهر فيه الصراع بين همدان وتميم ، كما يظهر علي مصلحا بين الطرفين.
(٣) M. Pietrovsky ، «التراث اليمني القديم في الحضارة الإسلامية» ، مداخلة في المؤتمر الدولي حول الحضارة اليمنية ، عدن ، ١٩٧٥.