تلك التي واجهت الفتح العربي في القادسية. صحيح أنها كانت امبراطورية في حالة ضعف عميق ، لكنها استردت استقرارها مؤقتا ، وكانت قائمة الذات عند وقعة القادسية.
ويعني ذلك أن الأمر لم يتعلق في شيء بغارة موفقة بل إن المعركة كانت جدية ، درامية ، وكانت بمثابة المأساة إلى أعلى درجة في نظر المهزومين. كانت درامية بالنظر للمقاتلين لأن نتيجتها كانت محل شك. لكن مشكل المناعة العربية مطروح على المؤرخ لكثرة ما اعتبر طبيعيا أن العرب لا يمكنهم إلا أن ينتصروا.
توخى العرب تجاه خصومهم كافة سلوك انتصار محقق ، ولم نعد في حاجة إلى تعليل جانب كبير من ذلك. إنها قضية تاريخية ، لكن يمكن عرض بعض العناصر في وضع القادسية بالذات. لقد جمع الجيش العربي بين خاصتين : كان من الصنف البرابري ، وكان أيضا جيشا منظما تنظيما قويا لا محالة ، كان جيشا ـ شعبا وجيش مهاجرين ، وقد تألّف من محاربين مالكين لأسلحتهم ، نعني نخبة القبائل ، فضلا عن أنهم كانوا من المتطوعين.
وكانت تحرك هؤلاء الرجال رغبة واضحة في الفتح : ليس إرادة لتوسيع امبراطورية ما ، بل صورة ملحة للعيش الأفضل. وكان جيشا من النوع البرابري أيضا ، لأنه واجه شعبا بامبراطورية ، وكان ذلك الشعب قليل السلاح ، لكن كانت له دوافع نفسانية فضلا عن وجود القوة التعبوية للإسلام وندائه الموحد ، ووجود سياسة منسّقة ، ومسعى عقلاني. قلنا إنه كان غزوا من الصنف البرابري لا شعبا برابريا ذلك أن ما يلفت النظر في الروايات التي وصلتنا لم يكن من شكيلة الجسارة اللّاواعية ، بل هي الشجاعة المكتسبة والمزج بين روح المبادرة والانضباط ، وفوق كل ذلك وجود تقاليد ثقافية وتقاليد عسكرية.
لا شك أن البعد المعنوي وهو الأيسر على الإدراك كان الأكثر حسما لتعليل الانتصار. وفوق ذلك ، يبدو أن العرب أقاموا استراتيجية عسكرية جديدة. كان تجهيزهم أخف ، وكانوا أكثر حركة تجاه جيش قوي لكنه ثقيل ، وقد مرت بهم أيضا تجربة حروب الردة وما حصلت عليه بكر ثم بجيلة من ممارسة حربية ثمينة خلال فترة الأيام إضافة إلى خبرة القعقاع ورجاله. ولا نعلم إلا القليل عن تنظيم الجيش العربي ، لكن هل آل تنظيمه إلى الرفع من قدرته على التنقل والفعالية من الوجهة التكتيكية؟ ودور الفرسان أيضا؟ كل هذه الأمور تستوجب التوضيح.
حقيقة الأمر أن هذا الفن العسكري شهد تطورا حاسما بدفعة من النبي ، خصوصا على مستوى التعبئة أي تنظيم الجيش القتالي أو قبلها (١). لقد كانت الحرب مقامة في
__________________
(١) المؤسسة العسكرية ، بيروت ١٩٧٧ ؛ عبد الجبار محمود السمرائي ، «تنظيم التعبئة عند العرب» ، المورد ، مجلد ١٢ ، عدد ٤ ، ١٩٨٣ ص ٧ ـ ١٥.