الجاهلية على نظام الكر والفر أي الرجعة بعد الجولة وهذا يعني من وجهة التعبئة أن يصطف المقاتلة على أساس قبلي ويعني من وجهة القوة العدائية انتفاء روح الاستقلال والصمود على نطاق واسع. والتجديد الحاسم الذي أوجده الإسلام يكمن أولا في اتخاذ التعبئة بالصفوف بصفة مضبوطة صارمة وثانيا في نبذ فكرة الفر والإبقاء على الكر وبالتالي بث روح الصمود دون استثناء. وأول ما طبق ذلك النبي في معركة بدر حيث تذكر لنا المراجع أنه كان يسوي الصفوف كصفوف (١) الصلاة (وهنا تبرز بصفة محسوسة العلاقة في الإسلام بين الحرب والصلاة) وأن المؤمنين كانوا يزحفون على العدو دون فكرة تراجع. وقد اعتبر القرآن بعد أحد كل انهزام في المعركة دون مبرر تكتيكي أمرا كبيرا حيث يرد أن (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٢). وكان الجيش الإسلامي يتركب منذ زمن النبي على النمط التالي : الصف الأول هو صف الرماح والثاني السهام والثالث والرابع السيوف. ويبدو أن الصفوف الأربعة هذه كلها مشاة ، أما الفرسان فهي تكون ميمنة الجيش وميسرته. فالنبي إذن يكون قد سنّ انقسام تعبئة الجيش إلى قسمين : القلب وهو مؤلف من المشاة ، والجناحان حيث الفرسان ، والقلب بذاته منتظم صفوفا مختصة حسب السلاح. وإذا صح هذا فقد قام النبي بتجديد عميق في التعبئة ، تجديد معقلن تماما يفوق بكثير التنظيم القبلي القديم إذ يتجاوز الاصطفاف على أساس القبيلة ويقيم وحدة الجيش المقاتل. ولعل هذا يفسر إلى حد كبير تفوّق جيوش النبي على جيوش أعدائه كما تفوّق الحكم القائم بالمدينة على القبائل العربية في حروب الردّة (٣). ونحن نعلم أن أبا عبيدة باليرموك جعل هو بدوره الفرسان على أجناب الصفوف الثلاثة. أمّا بخصوص سعد بالقادسية ، فإنّ سيفا يذكر لنا ما نصّه (٤) : «والمسلمون على مواقفهم إلا من تكتّب أو طاردهم وهم ثلاثة صفوف ، فصفّ فيه الرّجالة أصحاب الرماح والسيوف وصف فيه المرامية ، وصفّ فيه الخيول ، وهم أمام الرّجالة وكذلك الميمنة ، وكذلك الميسرة» ويعني هذا أنّه احتفظ بالثلاثة صفوف وبهيكلة الجيش إلى قلب وجناحين دون تخصيص الجناحين إلى الفرسان. لكن من جهة أخرى ، وقد ذكرنا ذلك ، تبدو القبائل وكأنها وحدات قائمة الذات ، ونحن نلحظ الشيء نفسه في معركة صفين (٥). ولا يمكن تفسير ذلك إلا إذا اعتبرنا توزيع القبائل إلى كتل ، الكتلة حذو
__________________
(١) ابن اسحاق ، السيرة ، ص ٤٤٥ حيث يقول : «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قضيب يعدل به القوم ..».
(٢) سورة الأنفال ، ١٦.
(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٥٩.
(٤) المرجع نفسه ، ص ٥٦١.
(٥) نصر بن مزاح ، معركة صفين ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٩.