بجفاف تجاوز ما هو موجود عند ابن اسحاق ـ وقد روى عنه الطبري (١) وهو الذي يشكل جوهر الروايات المدنية ـ واعتمد البلاذري (٢) بالخصوص تلك الروايات العراقية (رواية عوانة ومجالد بالنسبة للمدائن ، ورواية أبي مسعود الكوفي وعوانة وهشام بن الكلبي وعوانة من جديد بالنسبة لجلولاء). وقد اشتملت رواية خليفة بن خياط (٣) على كثير من الأخبار المقتضبة التي كانت عراقية ومدنية ، كانت أخبارا رئيسة وثانوية ، اضطرب توقيتها. أما رواية الدينوري (٤) ، فقد اتصفت بشكلها العام.
الواقع أن من غزارة الروايات وتناقضاتها ذاتها يبرز منطق للأحداث يجب متابعته دون المساس بأصل الروايات أو بشكلها : تلك هي الطريقة التي توخيناها لحد الآن ، وهي الطريقة ذاتها التي سنستمر في العمل بها.
الاستيلاء على المدائن
خرج العرب إلى المدائن بعد وقعة القادسية ، ودفعتهم إلى ذلك ضرورة عسكرية بديهية هي الاستيلاء على عاصمة الامبراطورية الفارسية التي كانت المقر الرئيسي للسلطة في العراق ، والمركز النابض للقيادة ؛ وتبعا لذلك تقرر القضاء على الدولة الفارسية في العراق. كان العرب لذلك السبب على يقين من أن انتصارهم في القادسية كان حاسما واكتسب طابعا آخر مغايرا لما كان عليه الأمر في البويب مثلا. ويزداد الأمر بداهة عند مقارنته بما جدّ في الأيام المعروفة. بقي أن نعرف هل تم القضاء على الجيش الفارسي قضاء مبرما ، إلى درجة أن المسيرة نحو المدائن ستؤول إلى مجرّد حوز للمدينة أم أن الفرس ما زال لديهم دافع يدفعهم ، وهل كان ممكنا قلب الوضع لصالحهم؟
يبدو أن كايتاني يميل إلى الرأي الأول (٥) ، وذلك ما جعله يرّق لرواية المدنيين الجافة. على أن ما يقبل الاحتمال هو ظهور بعض مواقع المقاومة الصغرى حتى المدائن ، وصمود أشد في أسفل جبال زاغروس ، بجلولاء ذاتها. لجلولاء في الرواية التاريخية العربية كلها مكان مفضل في ملحمة فتح العراق ، لكن أيضا في كتب الفقه. كان حضور الناس وعدم الحضور
__________________
(١) التاريخ ، ج ٣ ، ص ٥٧٨.
(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٥.
(٣) التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٨.
(٤) الأخبار الطوال ، ص ١٢٦ ـ ١٢٧.
(٥) فقد تحدث عن «حملة بدون رونق» ترتب عليها طرد الساسانيين من بلاد بابل : Annali ـ ـ ـ ,III ,٢ ,pp.٣١٧ ـ ٤١ ,.p.٦٥٧.