يجد «دار هجرة» لا يفصلها البحر (بمعنى النهر) عن المدينة (١) أي أن يبقى الإتصال المكاني ببلاد العرب قائما. لكن الإشارة إلى الأسباب المناخية كانت هي الواردة في كل الروايات الأخرى. ولنأخذ على ذلك مثل الطبري : تستند كل الروايات الخمس المذكورة بخصوص الإنشاء ، ومن بينها أربع روايات رواها سيف وخبر واحد رواه أبو عوانة ، إلى مشكلة المناخ (٢). ولم يزد البلاذري عن كونه حوّل المكان الذي انطلق منه المشكل المناخي ، فلم يحدده في المدائن بل في المواقع المختارة مؤقتا بالأنبار وسوق حكمة (٣).
لا بد أن المشكل كان واقعا. إذ بعد أربعة عشر شهرا من الإقامة في المدائن تخللتها عمليات جلولاء وحلوان وسواد دجلة ، ظهرت علامات التعب على العرب فلم يتكيفوا مع المناخ واعتبروه مضرا بصحتهم ، ومتعفنا ، ووخيما (٤). وكانت الحشرات تنهال على الجمال وتوجعها. فصار واضحا أن موقع المدائن المائي لم يناسبهم. كان موقعا غطته القنوات ، فكان نديّا على الرّغم مما امتازت به مثل هذه المدينة المشيدة المنظمة من الميزات. وقد صار مؤكدا أن ضرورة التكيف مع المحيط الطبيعي لا مناص منها في كل المواقع التي استقر فيها العرب. فأدى ذلك إلى اختيار الفسطاط بدل الإسكندرية ، والقيروان بدل قرطاجة. تلك كانت الضرورة الطبيعية التي أملت على العرب اختيار موضع الكوفة على مشارف الصحراء دون شك ، فأثر ذلك الاختيار بدوره على الخيارات القادمة ، وسن سنّة. وعندي أنّ اختيار الموضع أملته أيضا خيارات سياسية واستراتيجية وثقافية.
لقد كان لتعليمات عمر دور جوهري في هذا الاختيار ، وهو الذي ينسب إليه هذا القول : «إن العرب بمنزلة الإبل لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل (٥). فهل كان قوله هذا تعبيرا عن تصور رعوي للوجود العربي في العراق وكامتداد لوجودهم في بلاد العرب ، وكيف وقع أن المقاتلين العرب في المدائن وجلولاء قد اصطحبوا ابلهم؟ تثير هذه العبارة مشكلا متشعبا هو : استقرار العرب ، وتراكب الأنماط الحياتية السابق منها واللاحق ، وآثار الحياة الرعوية أو الإرادة العنيدة في المحافظة على نمط العرب الحضاري ، رغم أنهم كانوا محمولين على تقمص دور آخر هو دور المجموعة الامبراطورية المقاتلة المقامة على توزيع المال المقتطع من الأهالي الأصليين. ستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع.
__________________
(١) فتوح البلدان ، البلاذري ، ص ٢٧٤.
(٢) التاريخ ، ج ٤ ، ص ٤٠ وما بعدها.
(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ و ٢٧٥ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤١.
(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠.
(٥) المرجع نفسه ، ص ٤١ ، نقلا عن خبر لأبي عوانة ، وص ٤٢ عن رواية لسيف.