والملاحظ على كلّ أن الإبل كانت حاضرة ، سواء اعتبرنا هذا الحضور بقية من بقايا الماضي أم لا. ولا يستبعد أنه أثر في قرار الانتقال إلى منطقة تشرف على البادية لأسباب نفسية أكثر منها اقتصادية ، كان التكيف مع الموقع أكثرها بداهة ، ذلك أن العرب لا يتكيفون مع مكان إلا إذا تكيفت معه مواشيهم. فكان موقعا بين البر (١) ـ عالم السباسب والصحراء ـ والريف ـ عالم البادية المزروعة ، المنظمة ، غير العربية ، الخاضعة «للبحر» ، بمعنى أن له وضعية الحدود فيسمح بمراقبة السواد دون أن ينفصل عن بلاد العرب. وتذكر المصادر أن استكشاف الأراضي شمل الفرات على امتداده ، وقد قام بالعملية سلمان وحذيفة بن اليمان ، سلمان من جهته وحذيفة (٢) من جهته ، ذلك أن مواضع كثيرة قد تستجيب للشروط المقررة مسبقا ، وذكرت المصادر مرارا إسم الأنبار وهي الحاضرة التي أنشأها سابور (٣). وقد مر بها سلمان دون أن يتوقف ، وهذا ما ذكره سيف. وأقام سعد فيها مدة ، كما قال الواقدي ، وفيها تململ الجيش من كثرة الذباب (٤). الواقع أن الأنبار كانت تتمتع بموقع استراتيجي طيب : كان مدينة حدودية ، فضلا عن وقوعها بمدخل أول طريق مائية بين الفرات ودجلة. وقد أعدّ فيها السفاح بعد ذلك مقر إقامته. إلا أنها كانت حاضرة تقع فيما وراء الفرات ، بعيدا إلى الشمال في ظن المخططين ، وكانت مدينة قائمة الذات بمعنى أنها كانت مجمدة الهياكل ، في حين أن همة العرب تعلقت بالجديد ، أي أن رغبتهم في أن يشكلوا مجالا وفق مزاجهم ، لا أن يسكنوا إطارا مبنيا طبق مقاييس حضارية مغايرة. ويحتمل أنهم لم يريدوا حتى إنشاء مدينة ما خلال المرحلة التي وقفوا عندها. بل إن همّهم كان إقامة معسكر مفتوح ، كما جاء في توصية منسوبة إلى عمر (٥). حتى أنهم مالوا إلى اختيار أرض عراء بدل اختيار الأنبار ، أو سوق حكمة وحتى الحيرة. كانت الحيرة شديدة التوغل في البادية ولم يكن قربها من الفرات والسواد كافيا (٦) ، لكنها كانت تقع بالخصوص تحت وطأة الماضي الذي أرادت العروبة
__________________
(١) المرجع نفسه ، ص ٤٢.
(٢) المرجع نفسه ، ص ٤١.
(٣) Le Strange, The Lands of the Eastern Caliphate, p. ٦٦. ؛ ياقوت ، ج ١ ، ص ٢٥٧.
(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤.
(٥) «المعسكر أجدى لحربكم» : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٣.
(٦) لم يتأكد لدينا هل أن الحيرة كانت تقع إلى الجنوب الغربي من الكوفة العتيدة ، على طريق القادسية ، أو إلى الغرب تماما ، من جهة النجف الحالي ، وقد تضاربت المصادر في هذا الموضوع ، وسادها الغموض. حدد اليعقوبي ، فتوح البلدان ، ص ٣٠٩ ، موقعها على طريق النجف ، وحدده ياقوت «على بعد ثلاثة فراسخ من الكوفة في مكان يقال له النجف» : ج ٢ ، ص ٣٢٨. راجع أيضا الجنابي ، ص ١٩٧ ، وما بعدها ، وصالح العلي ، «منطقة الحيرة» في مجلة كلية الآداب ، بغداد عدد ٢٥ ، ١٩٦٢ ، ص ١٧ ـ ٤٤. انظر كذلك لاسنر! Lassner, The Shaping of Abbasid Rule, Princeton, pp. ٣٤١ ـ ١٥١. ، الذي يميل إلى الاعتقاد بأن