ارتبطت الكوفة في نشأتها ونشوئها بالعمل العسكري ، متحملة إياه كهدف لها طيلة قرن. لم تكن حاضرة ـ امبراطورية ، بل كانت إحدى الحواضر الأساسية لامبراطورية أرضية شاسعة في حالة تكوّن ، وقد ساهم رجالها مساهمة كبيرة في خلقها والمحافظة عليها ، وتوسيعها. صارت الكوفة جزءا من الجهاز العربي لاحتلال ومراقبة المشرق كافة ـ أي العالم الساساني ـ موجهة قدرتها العسكرية إلى التراب الإيراني الذي كان أفقا للفتح انفتح إلى ما لا نهاية. ومع هذا ، كان الطابع المدني للسكنى ، والتعايش المنظم العائلي والعشائري والقبلي ، قائما منذ البداية. لم يكن الجيش في الكوفة مقيما على شكل حامية كما هو الشأن في مستعمرة خارجية ، كما في الماه أو الثغور تحديدا (١). بل استقر في وطنه الجديد دون إبداء نية في العودة. وبذا دلت كلمتا مصر ومصّر منذ البداية على الكيان المدني ، سواء على الصعيد البشري أم على الصعيد الهندسي المعماري ، حتى إننا نجد ابن خلدون يستعمل ذلك باستمرار في فترة متأخرة ، تسمية للظاهرة المدنية في نقاوتها المطلقة ، وفي أشد معارضتها للحياة البدوية (٢).
تخطئة بعض التصورات. قضايا حقيقية وقضايا خاطئة
المفارقة أن الكوفة وهي المصر المثالي ، كانت مصرا للبدو في أول الأمر. إذ لا يمكن أن تنزع عن قبائل مثل أسد وتميم وكندة ، التي استقرت بكثرة في الكوفة ، السمة المزدوجة للبداوة العربية ، أي التنظيم العشائري والقبلي الذي استبقي في الكوفة ، وماضي الترحل والظعون. لكن الأمر يرتبط ارتباطا دقيقا بماض معين ، مهما كان قريبا. أما عن الظاهرة القبلية ، فقد تأطّرت بقوة التنظيم الحكومي والعسكري والجبائي. ولم ترتبط بالترحل وما كان أحاط به من تيه ونهب. هنا في هذا الزمن والمكان ، بقيت القبائل مستقرة منضبطة
__________________
جامع : مثلا ص ٣٢٨ بخصوص الحديثة بالموصل. وتعني كلمة «مصر» معسكرا في الحميرية : راجع بحثنا :» Les Yamanites a ? Kufa au ١ er sie ? cle de l\'Hegire «, JESHO, XIX, ٢, P. ٧٧١. أما عند ابن خلدون ، فالمصر هو الحاضرة بالضبط : مقدمة ابن خلدون ، طبعة بيروت ١٩٦١ ، ص ٦٣٦ وغيرها حيث استخدم الكلمة دون تمييز مع كلمة مدينة. راجع أيضا : Wensinck ,E.I / ١ ، والصفحات التي كتبها صالح العلي في كتابه التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري ... ، ص ١٣ وما بعدها.
(١) قبل دخول العرب التراب الايراني ، يبدو أن ثغور الكوفة كانت الموصل ، وما ساباذان ، وحلوان ، وقرقيسياء : الطبري ، ج ٤ ، ص ٣٧ ـ ٤٢ ؛ ثم الري وقزوين بعد ذلك : الطبري ، ج ٤ ، ص ١٤٩ وما بعدها. أما عن مسألة الماهين الاثنين ، التي سأعود إليها ، فليراجع الطبري ، ج ٤ ، ص ١٦١. انظر أيضا البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٠٢ ، ٣٠٥ ، ٣١٥ ـ ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣٢٤ ـ ٣٢٥.
(٢) مقدمة ابن خلدون ، مرجع مذكور ، ص ٦٤٩ ـ ٦٥٠.