متحضرة بصورة متزايدة ، مع المحافظة على صلات وجدانية ببلاد العرب ، على الرغم من استمرار نمط العيش السابق في التأثير على السلوكيات والذهنيات. والأهم من ذلك أن الاستقرار كان له من السرعة والنجاح ما جعل الترحل يظهر جليا وكأنه كان ضرورة بالنظر للماضي وواقعا حتميا ، أكثر مما كان وجودا محبوبا ، مع أنه كان محبوبا بصورة من الصور. أما عن الكوفة ، والبصرة أيضا ، فما من شيء أغرب ، بلا شك ، عن واقع الأمور من الفكرة الشائعة التي تقول بهجرة فوضوية وفدت منقضة على بلاد الرافدين (١). إن مقابلة أو معارضة ابن خلدون بين المصر والإنسان البدوي في منحى التنافر بينهما ، قد تكون وجيهة في فترات متأخرة ، في الكوفة بالذات وفي غيرها ، لكنها ليست كذلك قطعا في الفترة التي تكوّن خلالها هذا المصر وازدهر. هذا إشكال خاطىء ينبغي إحباطه. وتوجد إشكالات أخرى أكثر دقة ، منها إشكال الاستقرار مثلا. لقد اعتبره ماسينيون Massignon (٢) ، وريشارد بوليات Richard Bulliet (٣) أيضا ، تجربة حاسمة في الكوفة التي كانت لديهما نموذجا جديرا بأن يبدي الرأي فيه المخططون المعماريون المعاصرون ، وعرض كل منهما تفسيرا لهذا النجاح العظيم الذي بلغته عملية الاستقرار. وقد عزاها ماسينيون إلى الدور الدافع الذي لعبه اليمنيون المتحضرون من قديم (٤) ، وعزاها بوليات إلى فقدان الفاصل بين ظاهرة الترحل وظاهرة الاستقرار في ماضي الشرق قبل ظهور الإسلام ، وتمادي هذا التناضح في الكوفة والبصرة. ينبغي أن تؤخذ وجهات النظر هذه بعين الاعتبار قطعا ، ولكنها تردّ دون وعي على الإشكالية القديمة وتتقمصها ، حتى لو تعلق الأمر بدحضها (بوليات). الواقع أنه يمكن التساؤل عما إذا كان لفظ الإستقرار هو اللفظ الصالح فعلا في هذا الصدد. لعل الأولى القول إنها كانت عملية تمدنية جدّت في ظروف خاصة ، اثر دعوة
__________________
(١) توجد أخطاء فادحة جدا في تقدير ظاهرة الفتح العربي ، مثلا عند زافييه دي بلانول : Xavier de Planhol, Les Fondements ge ? ographiques de l\'Histoire de l\'Islam, Paris, ٨٦٩١, pp. ٥٣ ـ ٧٣.
(٢) تحدث ماسينيون عن ذلك ، في بحثه الأساسي عن الكوفة :» Explication du plan de Kufa «, Melanges Maspero, III, pp. ٧٣٣ ـ ٠٦٣, reproduit dans Opera Minora, III, pp. ٦٣ ـ ٢٦ .. فلاحظ من أول وهلة أن رغبته من وراء هذا العمل هو أن يستخدم «للدراسة التاريخية للاسلام في العراق خلال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة ، وأيضا للدراسة الاجتماعية لتوطين وتحضير البدو ، وكانت الكوفة أنشط مركز في فجر الاسلام ، لهذه الظاهرة الاجتماعية الرئيسية في تكوين الحضارة الاسلامية لذلك العصر ، وهي ظاهرة رئيسية في عصرنا أيضا ، حيث رجعت على نطاق واسع ، لمستقبل العروبة».
(٣) في بحث غير منشور زاخر بالأفكار ، عنوانه Nomadic Sedentarization in the Seventh Century ومخصص للكوفة والبصرة.
(٤).» Explication du plan de Ku ـ fa «,op.cit.,p.١٤ راجع نقدنا لآراء ماسينيون في هذه النقطة بالذات ، ضمن بحثنا :» Les Yamanites ـ ـ ـ «,art.cit.,p.٥٧١