دينية وضمن نشوء دولة إمبراطورية ، وبعد الفتح. إن العنصر الإرادي كامن دائما ، ولا سيما عنصر التأطير. قد يكون لمفهوم الاستقرار معنى أنفذ ، لو استقر العرب المهاجرون في السواد بصفة فلاحين ، استقرارا عفويا ضمن إطار اقتصادي مندمج ، منسجم تقريبا ، أي في ظروف تاريخية لم تعرف الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام. إن التغيير ، بطابعه المحير ، يكمن في التدرب على التعايش بين قبائل كانت متباعدة الواحدة عن الأخرى منذ أقدم العصور ، أكثر مما كان ترسيخا سكنيا لأناس اعتادوا من قبل التنقل الترحلي ، كما أنه يكمن في امتلاك جديد للروح الحضرية ، والخضوع لدولة فوقية موحّدة. ولم يتسرب لا محالة أي شيء من المصادر ، تسربا صريحا ، فيما يخص الطريقة التي بها تم الاستقرار. وبلوغا لذلك ، ينبغي أن نعود إلى طرح القضية ضمن منظار يخالف كل المخالفة منظار الجغرافيا الاستعمارية أو نظرية التنمية التخطيطية. وما يلفت النظر أن النصوص القليلة المتاحة والخاصة بالكوفة وتشييدها من الداخل ، تجرّ الباحث كلما تعمق في المطالعة إلى الاقتناع بأن الأمور تمت من أول وهلة ، وأن الكوفة حصلت على خاصيات المصر الأساسية منذ انطلاقتها الأولى وفي فترة قصيرة ، المصر أي مكان إقامة دائمة ، مالك لنواة معمارية ومنظم ، ومن البديهي أنه يجب إعادة النظر في مراحل تطور الكوفة منذ خطواتها الأولى.
سبق لنا أن جلّينا مظهر الكوفة ، وسنحاول التدقيق فيه ، وهو في الحقيقة يتحدى التصورات المعهودة. نحن نترقب مثلا أن تعود بقوة إلى السطح مسألة العلائق القائمة بين المدينة والريف. الواقع أن الكوفة كانت مرتبطة في آن بالسواد ، ومنه تستمدّ عيشها وقاعدتها المادية ـ كنقطة لامتصاص الفيء ، كما يقول ماسينيون (١) ، ومرتبطة ببلاد العرب حيث تستمد جوهرها البشري والثقافي. إلا أن نشاطها ارتبط بالأحرى بالأفق الإيراني الذي اتجهت إليه بكامل طاقتها (٢). ولذا يظهر السواد عبر المصادر بمظهر الإطار الجغرافي ، و «البستان» في نظر أهل الكوفة ، تمثلا بعبارة معروفة (٣) ، أكثر منه فضاء اندمج في الحاضرة أو غزاها. المؤكد أن المبادلات البشرية جدّت وزادت قوة بمرور الزمن ، لكن يتبين أن
__________________
(١) Massignon ,Opera minora ,p.٩٣.
(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ١٢٢ وما بعدها ، ص ١٤٩ ما بعدها وما قبلها ؛ ج ٦ ، ص ٣٤ وما بعدها ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٣٠٢ وما بعدها ، ص ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ؛ ابن رسته : الأعلاق النفيسة ، ص ١٦٦ ؛ Hill, Termination of Hostilities, p. ٨٣١ ff. p. ٢٥١ ـ ٣٥. Shaban, The Abbasid Revolution, Cambridge, ٠٧٩١, p. ٦١ ff.
(٣) نسبت هذه الكلمة إلى سعيد بن العاص دلالة على السواد ك «بستان قريش» ، مما أدى بقسم من أهل الكوفة إلى معاداته فعلا : البلاذري ، أنساب الأشراف ، طبعة القدس ١٩٣٦ ، ج ٥ ، ص ٤٠ ؛ ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، B.G.A. ، ج ٥ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٦.