الانفصال كان أقوى من التناضح. هذا ولا يمكن الحديث عن عراق عربي جديد في القرن الأول الهجري تحتل فيه الكوفة والبصرة موقع العاصمتين السياسيتين. بل على النقيض من ذلك مثّلث هاتان البؤرتان العراقين (١) العربيين ، واستنفدتا فكرة العراق العربي ، فما كان يوجد خارجهما شيء سوى سواد البصرة والكوفة أي ميدانهما أكثر مما هو ترابهما (٢). وقد اقتطع بعض الأفراد من أرستقراطية الأشراف قطائع (٣) وأقاموا بها من حين لآخر ، ومنهم المختار (٤). لكن الحياة الزراعية استمرت على ما كانت عليه في الماضي ، مع قيام الدهاقين بمهمة الجباية ، وكانوا مسؤولين أما دواوين الدولة (٥). لقد كان الرجل العادي في الكوفة يشعر بوزن السواد شعورا سلبيا فقط ، عندما تنقص مداخيل الخراج باستحواز جماعات الخوارج على الأموال (٦). ويعني هذا أن العلاقة بين المدينة والريف لا تسترعي هنا الانتباه كثيرا ولا تبرز للعيان وأنها أكثر تشعبا مما هي عليه في وضع المجتمع المنسجم غير المتأثر بظروف الهيمنة العسكرية والعرقية ، أو في صورة الحاضرة المستقلة التي لا تعيش إلا اعتمادا على ترابها. ومن المفارقات أنه بقدر ما يقوى الرباط الحميم الذي يربط بين الكوفة والسواد ، يتضاءل شعورهم بهذا الرباط. وبدون أن تكون العلاقة بين الحاضرة وريفها مفقودة ، فهي تكتسي صبغة ثانوية في هذا المجال ، كأن الكوفة قد اقتلعت من الأرض
__________________
(١) العراقان كلمة شاعت في كل مكان في العصر الوسيط ولا صلة لها بما طرأ من تمييز لاحقا بين (العراق العربي) (والعراق الأعجمي ـ الجبال) راجع : Le Strange, The Lands of Eastern Caliphate,. P. ٥٨١ ، بخصوص هذه النقطة الأخيرة.
(٢) وهو ما كان يفرض مسبقا لا تملك الأرض فقط ، بل رباطا ماديا بواسطة الشغل ، وحضورا ، وتنقلا بين المدينة والحقل. على أن الشعور بالتملك كان الأقوى.
(٣) سنعود إلى مسألة القطائع التي وزعت في خلافة عمر ، وفي خلافة عثمان بصورة أوسع : Massignon ,op.cit.,p.٨٤ ؛ حسين الزبيدي ، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة ، بغداد ، ١٩٧٠ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.
(٤) كان يملك قرية كاملة وضيعة ضخمة في خطرنيّة : أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢١٤. لكن من المهم التذكير بوجود انبثاث عربي بالسواد منذ القرن الأول مع تقوية الظاهرة في القرنين الثاني والثالث. انظر بهذا الصدد عبد العزيز الدوري : «الإسلام وانتشار اللغة العربية والتعريب» في القومية العربية والاسلام. مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ١٩٨١ ، ص ٦١ ـ ٩٠.
(٥) Shaban ,lslamic History ,p.٣٥.
(٦) هو «كسر الخراج» : راجع الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥٨ بالخصوص ، حيث يحرض الحجاج أهل الكوفة على «أن يقاتلوا عن بلادهم وفيئهم» ؛ راجع أيضا الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ٢٦٩١. ٢٨٠ ؛ خليفة بن خياط ، التاريخ ، ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٨ ؛ Wellhausen, Die religios ـ politischen Oppositions parteien im alten lslam, ، نقله إلى العربية عبد الرحمن بدوي ، طبعة جديدة بالكويت ، ١٩٧٣ ، ص ٦٠ ـ ٩٨. وقد لاحظ صالح العلي ، بعد أن ذكر ابن خرداذبه ، أن خراج العراق انخفض في ولاية الحجاج ، إلى ٢٤ مليون درهم بعد أن كان ١٢٠ مليون درهم ، اعتبارا للانكسار الحاصل ، يعني الاغتصاب الذي جد بسبب الخوارج : راجع التنظيمات ، مرجع سبق ذكره ، ص ١٣٥.