قال أبو الحسين الرازي (١) :
وكان يوسف بن الحسين يقال : إنه أعلم زمانه بالكلام ، وعلم الصوفية. فلمّا كان بعد أيام جاء إلى ذي النون رجل صاحب كلام ، فناظر ذا النون ، فلم يقم ذو النون بالحجج عليه ، فاجتذبته إليّ ، وناظرته ، فقطعته ، فعرف ذو النون مكاني ، فقام إلي وعانقني وجلس [بين يدي ، وهو](٢) شيخ وأنا شاب ، وقال : اعذرني فلم أعرفك ، فعذرته ، وخدمته سنة واحدة ، فلمّا كان على رأس السنة قلت له : يا أستاذ ، إني قد خدمتك ، وقد وجب حقي عليك ، وقيل لي : إنك تعرف اسم الله الأعظم ، وقد عرفتني ، ولا تجد له موضعا مثلي ، فأحبّ أن تعلّمني إياه. قال : فسكت عني ذو النون ، ولم يجبني ، وكأنه أومأ إليّ أنه يخبرني ، وتركني ستة أشهر بعد ذلك ، ثم أخرج إلي من بيته طبقا ومكبة مشدودا في منديل ـ وكان ذو النون يسكن في الجيزة (٣) ـ فقال : تعرف فلانا صديقنا من الفسطاط؟ قلت : نعم ، قال : فأحبّ أن تؤدي هذا إليه. قال : فأخذت الطبق وهو مشدود ، وجعلت أمشي طول الطريق وأنا متفكر فيه : مثل ذي النون يوجه إلى فلان بهدية! ترى أيش هي؟ قال : فلم أصبر إلى أن بلغت الجسر ، فحللت المنديل ، وشلت المكبة ، فإذا فأرة ، قفزت من الطبق ، ومرّت. فاغتظت غيظا شديدا ، وقلت : ذو النون يسخر بي ، ويوجه مع مثلي فأرة إلى فلان!؟ فرجعت على ذلك الغيظ ، فلمّا رآني عرف ما في وجهي ، وقال : يا أحمق ، إنما جرّبناك ، ائتمنتك على فأرة فخنتني ، أفائتمنك على اسم الله الأعظم؟! وقال : مر عني فلا أراك شيئا آخر.
قال يوسف : وسمعت ذا النون يقول : من جهل قدره هتك ستره (٤).
وقال (٥) : قلت لذي النون وقت مفارقتي له : من أجالس؟ فقال : عليك مجالسة من تذكّرك الله رؤيته ، وتقع هيبته على باطنك ، ويزيد في عملك منطقه ، ويزهّدك في الدنيا عمله ، ولا تعصي الله ما دمت في قربه ، يعظك بلسان فعله ، ولا يعظك بلسان قوله.
وقال : عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك ، وتبعثك على الخير صحبته ، وتذكر الله رؤيته.
__________________
(١) تاريخ بغداد ١٤ / ٣١٦ ـ ٣١٧ ورواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ٩ / ٣٦ ـ ٣٨٧.
(٢) ما بين معكوفتين زيادة عن تاريخ بغداد ، ومكانه مطموس في مختصر أبي شامة.
(٣) الجيزة : بليدة في غربي فسطاط مصر قبالتها ، ولها كورة كبيرة واسعة (معجم البلدان ٢ / ٢٠٠).
(٤) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٢٤١ وتاريخ بغداد ١٤ / ٣١٤.
(٥) الخبر باختلاف الرواية في حلية الأولياء ١٠ / ٢٤١.