دقّة في العمل بحيث يعجز عن مثل عمله أمثاله (وَعِلْماً) عظيما فانّ التّنوين للتّفخيم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) يعنى بعد ما استوى وذلك انّ بنى إسرائيل كانوا في الشّدّة والبلاء وكانوا يستريحون الى أخبارهم بمجيء موسى (ع) وهلاك فرعون فخرجوا ذات ليلة مقمرة الى شيخ لهم عنده علم فقالوا : كنّا نستريح الى الأحاديث فحتّى متى نحن في هذا البلاء؟! قال : والله انّكم لا تزالون فيه حتّى يجيء الله بغلام عن ولد لاوى بن يعقوب اسمه موسى (ع) بن عمران ، غلام طوال جعد ، فبينا هم كذلك إذا قبل موسى (ع) يسير على بغلة حتّى وقف عليهم فرفع الشّيخ رأسه فعرفه بالصّفة فقال له : ما اسمك؟ ـ قال : موسى (ع) ، قال : ابن من؟ ـ قال : ابن عمران ، فوثب اليه الشّيخ فأخذ بيده فقبّلها وثاروا الى رجله فقبّلوها فعرفهم وعرفوه واتّخذ شيعة فمكث بعد ذلك ما شاء الله وقد ظنّ قوم فرعون به ودخل المدينة اى مصرا ومدينة اخرى من ارض مصر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قيل : حين القيلولة ، أو بين المغرب والعشاء ، أو كان يوم عيد لهم وقد اشتغلوا بلعبهم وانّما دخل على حين الغفلة لانّ موسى (ع) بعد كبره يركب في موكب فرعون وجاء ذات يوم ليركب قيل له : انّ فرعون ركب فركب في اثره فلمّا كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل ، وقيل : انّ بنى إسرائيل كانوا يجتمعون الى موسى (ع) ويستمعون كلامه فاشتهر ذلك منه وأخافوه وكان لا يدخل مصرّا لا حين غفلة أهلها ، وقيل : انّ فرعون بعد ما اشتهر ذلك منه امر بإخراجه من البلد (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) اى يختصمان (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى) بجمع كفّه أو بعصاه كما قيل (فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله (قالَ) موسى (ع) (هذا) الاقتتال أو تعجيل قتله أو هذا الكافر (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ) لبني آدم (مُضِلٌّ مُبِينٌ) لكن قوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يدلّ على انّ مقصودة انّ هذا القتل الصّادر منّى من عمل الشّيطان ، وهذا لا ينافي ما عليه الشّيعة من عصمة الأنبياء فانّ الأنبياء (ع) معصومون من المعاصي لا من ترك الاولى ، وبعبارة اخرى انّهم معصومون من الذّنوب الّتى هي ذنوب بالنّسبة الى غيرهم لا من الذّنوب الّتى هي ذنوب بالنّسبة إليهم فانّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، وتوبة الأنبياء (ع) من الالتفات الى غير الله فلا غرو ان يكون موسى (ع) عدّ فعله يعنى تعجيله في قتل من استحقّ القتل من دون ملاحظة المفاسد الّتى تترتّب عليه ذنبا له واستغفر منه ونسب الظّلم الى نفسه مع انّه كان مستحقّا للقتل ، وبعد ما فرغ من استغفاره لترك الاولى نظر الى قوّته و (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) من القوّة الّتى اقدر بها على القتل بوكز (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) كما صرت ظهيرا في هذه الكرّة (فَأَصْبَحَ) موسى (ع) في اليوم الثّانى (فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) من فرعون وقومه لشياع خبر اجتماع السّبطىّ عليه وشياع قتله القبطىّ (يَتَرَقَّبُ) الاخبار من فرعون وقومه في حقّه (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قاتلت بالأمس رجلا وتقاتل اليوم الآخر (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قيل : لمّا قال موسى (ع) انّك لغوي مبين همّ ان يؤذيه وقال : لأوذينّك فلمّا أراد ان يبطش بالقبطىّ ظنّ السّبطىّ انّه أراد ان يبطشه فقال الاسرائيلىّ : أتريد ان تقتلني (الى آخره) وقيل : قال القبطىّ ذلك (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) آخرها (يَسْعى) يسرع في السّير وذلك انّ خبر قتل القبطىّ وصل الى فرعون فتشاوروا فأمر فرعون بقتل موسى (ع) وبعث في طلبه وكان الرّجل ابن عمّ فرعون أو ابن عمّ موسى (ع) وهو مؤمن آل فرعون كان مؤمنا وكاتما لإيمانه ستّمائة سنة