يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله ، وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه ، ويذكرونه ، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وبهذا أمر جميع خلقه ، ولذلك خلقهم كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ، ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤] وقال تبارك وتعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] إلى أن قال (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء : ٢٦] وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قلت : يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال «الصلاة على وقتها» قلت : ثم أي؟ قال «بر الوالدين» قلت : ثم أي؟ قال «الجهاد في سبيل الله» ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله من أبر؟ قال «أمك» قال : ثم من؟ قال «أمك» قال : ثم من؟ قال : «أباك»؟ ثم أدناك ثم أدناك».
وقوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد ، وقيل كان أصله «أن لا تعبدوا إلا الله» ونقل من قرأها من السلف ، فحذفت أن فارتفع ، وحكي عن أبيّ وابن مسعود أنهما قرءاها «لا تعبدوا إلا الله» ونقل هذا التوجيه القرطبي (١) في تفسيره عن سيبويه. قال : واختاره الكسائي والفراء ، قال (وَالْيَتامى) وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء ، والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم. وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في قوله (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [النساء : ٣٦] ، وقوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣] أي كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ، ويقول للناس : حسنا كما قال الله ، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا روح ، حدثنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «لا تحقرن من المعروف شيئا ، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق» (٣) وأخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي ،
__________________
(١) تفسير القرطبي ٢ / ١٣.
(٢) مسند الإمام أحمد (ج ٥ ص ١٧٣)
(٣) في المسند : «طلق».