وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة ، فقال : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] فلما رأوا ذلك ، قال بعض القوم لبعض : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف ، فعند ذلك جنحوا للسلم ، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فضربها عليهم ، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا. ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه ، كما سيأتي تقريره في موضعه ، إن شاء الله تعالى.
وأما من فسر الآية على معنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم ، فتمنوا الآن الموت ، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة ، كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول ، فإنه قال (١) : القول في تأويل قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) الآية ، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلىاللهعليهوسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه [أن يدعوهم] (٢) إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليهالسلام ، وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة ، فقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم (٣) لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون ، من أن الدار الآخرة لكم خاصة دوننا ، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم ، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها ، أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها ، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها ، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلىاللهعليهوسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من (٤) المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن ، وآخره فيه نظر ، وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل ، إذ يقال : إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم ، أنهم يتمنون
__________________
(١) تفسير الطبري ١ / ٤٦٨.
(٢) الزيادة من الطبري.
(٣) عبارة الطبري : «بل إن أعطيتم أمنيتكم ...».
(٤) أي : كما امتنع فريق النصارى من المباهلة.