والربيع بن أنس : حجتكم ، وقال قتادة بينتكم على ذلك : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، أي فيما تدعونه ، ثم قال تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠] ، وقال أبو العالية والربيع (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يقول : من أخلص لله وقال سعيد بن جبير : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ) أخلص (وَجْهَهُ) ، قال دينه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي اتبع فيه الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإن للعمل المتقبل شرطين : أحدهما أن يكون صوابا خالصا لله وحده ، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ، ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، رواه مسلم (١) من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم ، وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله ، فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعا للرسول صلىاللهعليهوسلم ، المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور: ٣٩] ، وقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) [الغاشية : ٥] ، وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقا للشريعة ، في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله ، فهو أيضا مردود على فاعله ، وهذا حال المرائين والمنافقين ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] ، وقال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) [الماعون : ٤ ـ ٧] ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] وقال في هذه الآية الكريمة : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، وقوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلونه ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير ، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) يعني في الآخرة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني لا يحزنون للموت.
وقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) ، بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم ، كما قال محمد بن إسحاق (٢) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النصارى ، على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند
__________________
(١) صحيح مسلم (أقضية حديث ١٨)
(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٤٢.