شريح : ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة ، رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليهالسلام حرمها ، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليهالسلام لها ، كما أنه قد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، ومع هذا قال إبراهيم عليهالسلام (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن بدء أمرك. فقال : «دعوة أبي إبراهيم عليهالسلام ، وبشرى عيسى ابن مريم ، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك ، كما سيأتي قريبا إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه ، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أي من الخوف أي لا يرعب أهله ، وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا ، كقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم (١) عن جابر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» وقال في هذه السورة (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [البقرة : ١٢٦] وناسب هذا هناك لأنه ، والله أعلم ، كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به ، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ، ولهذا قال في آخر الدعاء (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [إبراهيم: ٣٩].
وقوله تعالى : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال : هو قول الله تعالى ، وهذا قول مجاهد وعكرمة ، وهو الذي صوبه ابن جرير (٢) رحمهالله. قال : وقرأ آخرون : (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
__________________
(١) صحيح مسلم (حج حديث ٤٤٩)
(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٩٤. قال : والصواب عندنا ما قاله أبيّ بن كعب وقراءته. والمراد بقراءة أبيّ : أمتّعه ، بتشديد التاء ورفع العين.