«ويعقوب» بالنصب (١) عطفا على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك ، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي (٢) عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ، والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ، لأن البشارة وقعت بهما في قوله (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة ، وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] ، وقال في الآية الأخرى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] وهذا يقضي أنه وجد في حياته ، وأيضا فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام» قلت : ثم أي؟ قال «بيت المقدس» ، قلت : كم بينهما؟ قال «أربعون سنة» الحديث (٣) ، فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس ـ وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه ـ وبين إبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين ، والله أعلم ، وأيضا فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا ، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين.
وقوله (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أحسنوا في حال الحياة ، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه ، فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير وفق له ويسر عليه ، ومن نوى صالحا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ويعمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وقد قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ٥ ـ ١٠].
__________________
(١) هي قراءة عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي ، كما جاء في تفسير القرطبي.
(٢) تفسير القرطبي ٢ / ١٣٦.
(٣) أخرجه مسلم (مساجد حديث ١) وأحمد في المسند (ج ٥ ص ١٥٠). وتتمة الحديث : ثم أي؟ قال : «ثم حيثما أدركت الصلاة فصلّ فكلها مسجد».