اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١٥٤)
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر ، شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة ، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له».
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] ، وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا حزبه أمر صلى ، والصبر صبران فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات ، والثاني أكثر ثوابا لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب ، فذلك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب ، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الصبر في بابين : الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء ، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله.
وقال علي بن الحسين زين العابدين : إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد ، أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال : فيقوم عنق (١) من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : قبل الحساب؟ قالوا : نعم ، قالوا : ومن أنتم؟ قالوا : نحن الصابرون ، قالوا : وما كان صبركم ، قالوا : صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله ، قالوا : أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.
(قلت) ويشهد لهذا قوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر: ١٠] وقال سعيد بن جبير : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر.
وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) ، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون ، كما جاء في صحيح مسلم (٢) : أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك إطلاعة ، فقال : ماذا تبغون؟ فقالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا ، قالوا : نريد أن تردنا
__________________
(١) العنق (بالتحريك) : الطائفة من الناس.
(٢) صحيح مسلم (إمارة حديث ١٢١). والحديث الذي يرويه ابن كثير هنا يختلف بلفظه كثيرا عما جاء في رواية مسلم. قارن أيضا بسنن الترمذي (تفسير سورة ٣ باب ١٩)