السكينة والوقار» فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث ، وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل ، وهو نتاج الحيوانات اللذين لا قوام للناس إلا بهما وقال مجاهد : إذا سعي في الأرض إفسادا ، منع الله القطر فهلك الحرث والنسل (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي لا يحب من هذه صفته ، ولا من يصدر منه ذلك.
وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله ، وقيل له اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق ، امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم ، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ، قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحج : ٧٢] ولهذا قال في هذه الآية (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هي كافيته عقوبة في ذلك.
وقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة : نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ، فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة وقالوا له : ربح البيع فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الآية ، ويروى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له «ربح البيع صهيب» قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن رستة ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ، ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبدا ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فقال «ربح صهيب ربح صهيب» مرتين ، وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ، قال : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلىاللهعليهوسلم فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته وانتثل (١) ما في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلا ، وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما تبقى في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي ، قالوا : نعم ، فلما قدم على النبي صلىاللهعليهوسلم قال «ربح البيع» قال : ونزلت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في
__________________
(١) استخرج ما فيها من السهام.