وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر كما قال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : ١] أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر ، ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. كما أكدوا أمرهم قالوا : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وليس الأمر كذلك ، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وبقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).
وقوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) يقول : وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ومن القراء من قرأ (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد (١). وقال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل : لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعا ، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلّص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله ، وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرعها به كأس عذابها ، ومزيرها (٢) من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم
__________________
(١) اختار الطبري قراءة (وما يخدعون). قال : ومن الدلالة أيضا على أن هذه القراءة أولى بالصحة أن الله جلّ ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله عزوجل. (تفسير الطبري ١ / ١٥٣)
(٢) جعلها زيارة ، وهي هلاك ، سخرية بهم واستهزاء.