وقالوا للجنيد ، فأنكر عليهم وقال : لا يقولوا مثل هذا لأبي الحسين ، ولكنّه رجل لعلّه قد تغيّر دماغه.
ثمّ إنّه انقبض عن جميعهم ، وأظهر لمن لقيه منهم الجفاء ، وغلبت عليه العلّة وعمي ، ولزم الصّحارى والمقابر. وكانت له في ذلك أحوال يطول شرحها (١).
وسمعت جماعة يقولون : من رأى النّوريّ بعد قدومه من الرّقّة ولم يكن رآه قبلها ، فكأنّه لم يره لتغيّره ، رحمهالله (٢).
قال ابن جهضم : حدّثني أبو بكر الخلّال قال : كان أبو الحسين النّوريّ إذا رأى منكرا غيّره ، ولو كان فيه تلفه. فنزل يوما يتوضّأ ، فرأى زورقا فيه ثلاثون دنّا. فقال للملّاح : ما هذه؟ فقال : ما يلزمك. فألحّ عليه فقال : أنت والله صوفيّ كثير الفضول ، هذا خمر للمعتضد.
فقال : أعطني ذلك المدرى ، فاغتاط وقال لأجيره : ناوله حتّى أبصر ما يصنع. فأخذه ، ولم يزل يكسرها دنّا دنّا ، فلم يترك إلّا واحدا ، فأخذ النّوريّ ، وأدخل إلى المعتضد ، فقال : من أنت ويلك؟
قال : قلت : محتسب.
قال : ومن ولّاك الحسبة؟
قلت : الّذي ولّاك الإمامة يا أمير المؤمنين.
فأطرق ثمّ قال : ما حملك على ما صنعت؟
قلت : شفقة منّي عليك.
قال : كيف خلص هذا الدّنّ؟
فذكر النّوريّ ما معناه أنّه كان يكسر الدّنان ونفسه مخلصة ، فلمّا وصل إلى هذا الدّن أعجبته نفسه ، فارتاب في إخلاصه ، فترك الدّنّ (٣).
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ١٤ / ٧٤ ، ٧٥.
(٢) سير أعلام النبلاء ١٤ / ٧٥.
(٣) سير أعلام النبلاء ١٤ / ٧٦.