وشكرا لله الّذي وفقنا للاعتراف بدينه إعلانا وإسرارا ، وسددنا للانقياد لحكمه إظهارا وإضمارا ، ولم يجعلنا من ضلال الباطنية الذين يظهرون باللسان إقرارا ، ويضمرون فى الجنان تماديا وإصرارا ، ويحملون من الذنوب أوقارا (١) ، ويعلنون فى الدين تقوى ووقارا ، ويحتقبون (٢) من المظالم أوزارا ، لأنهم لا يرجون لله وقارا ، ولو خاطبهم دعاة الحق ليلا ونهارا لم يزدهم دعاؤهم إلا فرارا ؛ فإذا أطل عليهم سيف أهل الحق آثروا الحق إيثارا ، وإذا انقشع عنهم ظله أصرّوا واستكبروا استكبارا فنسأل الله أن لا يدع على وجه الأرض منهم ديارا (٣) ؛ ونصلى على رسوله المصطفى ، وعلى آله وخلفائه الراشدين من بعده صلوات بعدد قطر السحاب تهمى مدرارا ، وتزداد على ممر الأيام استمرارا ، وتتجدد على توالى الأعوام تلاحقا وتكرارا.
أما بعد : فإنى لم أزل مدة المقام بمدينة السلام (٤) متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها ، ومدّ على طبقات الخلق ظلالها ـ بتصنيف كتاب فى علم الدين أقضى به شكر النعمة ، وأقيم به رسم الخدمة ، وأجتنى بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة ؛ لكني جنحت إلى التوانى لتحيرى فى تعيين العلم الّذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الّذي يقع موقع الرضى من الرأى النبوى الشريف ، فكانت هذه الحيرة تغبر فى وجه المراد ، وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد ، حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية (٥) بالإشارة إلى
__________________
(١) أوقارا : أحمالا.
(٢) يحتقبون : يجمعون ويحتبسون.
(٣) إشارة إلى قوله تعالى على لسان نوح عليهالسلام بدعائه على قومه : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].
(٤) مدينة السلام : بغداد. سماها بذلك أبو جعفر المنصور الذي بناها.
(٥) نسبة إلى الخليفة العباسى أحمد المستنصر بالله (كان خيّرا فاضلا ذكيا بارعا ، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد ، وكان راغبا في البر والخير ، مسارعا إلى ذلك ، لا يرد سائلا ؛ وكان جميل العشرة لا يصغى إلى