بأقصى الجد ، وهذا بعينه هو الّذي يكشف عن اختراع هؤلاء وتهجمهم على الاختلاق والتخرص.
فإن قيل : لعلّه تمسك به المتمسكون ، إلا أنه اندرس ولم ينقل إلينا ، قلنا : كيف نقل إلينا التمسك بالألفاظ الظاهرة ، ونقل المنازعة فى الإمامة من الأنصار وقول قائلهم : «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب» (١) والدواعى على نقل النص أوفر. ولو جاز فتح هذا الباب لجاز لكل ملحد ـ إذا احتججنا عليه بالقرآن وعجز الخلق عن معارضته ، وبينا به صدق محمد صلىاللهعليهوسلم ـ أن يقول : لعلّه عورض ولكنه لم ينقل ، وتعاطى المسلمون إخفاءه. فإن قيل : أنتم مضطرون إلى معرفة هذا الخبر المتواتر ، ولكنكم تعاندون فى إخفائه تعصبا ـ قلنا : ولم تنكرون على من يقلب عليكم ويقول : أنتم تعرفون بطلان ما ينقلون ضرورة ولكنكم تعاندون فى الاختراع؟ وبم تنفصلون عن البكرية والرّاوندية إذا ادعوا ذلك فى النص على أبى بكر والعباس رضى الله عنهما؟ ـ فإن قيل : ألستم تدعون فى معجزات الرسول صلىاللهعليهوسلم انشقاق القمر وكلام الذئب وحنين الجذع وتكثير الطعام القليل ـ إلى غير ذلك مما أنكره كافة الكفار وطوائف من المسلمين ولم يكن خلافهم مانعا لكم من دعوى التواتر ـ قلنا : نحن لا ندّعى التواتر الّذي يوجب العلم الضرورى إلا فى القرآن ؛ أمّا ما عداه من هذه المعجزات فلو نقلها خلق كثير بلغوا حد التواتر لما تصوروا الشك فيها ؛ وإنما نقلها جماعة دون تلك الكثرة يعرف صدقهم بضروب من الأدلة النظرية والاستدلال بالقرائن الخالية من روايتهم ذلك ، وسكوت الآخرين عن الإنكار ، إلى غير ذلك من الأمور التى يتوصل إلى استفادة العلم منها عند إمعان النظر فيها بدقيق الفكر ، ومن أعرض عن النظر فى تيك الدلائل والقرائن ولم يتأملها حق التأمل لم يحصل له العلم. وأما أنتم فلا تقنعون فى خبركم بالنقل من عدد دون عدد التواتر ،
__________________
(١) تلك مقولة الحباب بن المنذر فى سقيفة بنى ساعدة عند وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، واجتماع الأنصار لاختيار خليفة. والعذيق : تصغير عذق ، وهو النخلة بحملها. والجذيل المحكك : الّذي ينصب فى معاطن الإبل ، لتحتك به الجربى فتشفى. فشبه نفسه بذلك ، لأنه يلجأ إليه ويشتفى برأيه.