ولا ينفس عنه أصلا ، بل يتركه معلقا ويهول الأمر عليه ويعظمه فى نفسه ويقول له : لا تعجل ، فإن الدين أجل من أن يعبث به ، أو أن يوضع فى غير موضعه ويكشف لغير أهله ، هيهات ، هيهات!
جئتمانى لتعلما سر سعدى |
|
تجدانى بسر سعدى شحيحا |
ثم يقول له لا تعجل! إن ساعدتك السعادة سنبث إليك سر ذلك ، أما سمعت قول صاحب الشرع : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهر (١) أبقى (٢).
وهكذا لا يزال يسوقه ثم يدافعه حتى إن رآه أعرض عنه واستهان به وقال : ما لي ولهذا الفضول ، وكان لا يحيك فى صدره حرارة هذه الشكوك ، قطع الطمع عنه ؛ وإن رآه متعطشا إليه وعده فى وقت معين ، وأمره بتقديم الصوم والصلاة والتوبة قبله ؛ وعظّم أمر هذا السر المكتوم. حتى إذا وافى الميعاد قال له : إن هذه الأسرار مكتومة لا تودع إلّا فى سر محصن ؛ فحصن حرزك ، وأحكم مداخله حتى أودعه فيه. فيقول المستجيب : وما طريقه؟ فيقول : أن آخذ عهد الله وميثاقه على كتمان هذا السر ومراعاته عن التضييع فإنه الدر الثمين والعلق النفيس ؛ وأدنى درجات الراغب فيه صيانته عن التضييع ؛ وما أودع الله هذه الأسرار أنبياءه إلا بعد أخذه عهدهم وميثاقهم ؛ وتلا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] الآية وقال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ؛ وقال تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١]. وأما النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يفشه إلا بعد أخذ العهد على الخلفاء وأخذ البيعة على الأنصار تحت الشجرة (٣). فإن كنت راغبا فاحلف لى على كتمانه ، وأنت
__________________
(١) كذا فى المطبوعة ؛ والصحيح : ولا ظهرا.
(٢) رواه مسلم فى صحيحه ؛ وأبو داود والنسائى وابن حبان.
(٣) وتسمى بيعة الرضوان ؛ وكانت يوم الحديبية وشملت المهاجرين والأنصار جميعا يقول تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨].