فإن قيل : المزاج إذا فسد لا يعود معتدلا إلّا بأن تنحل أجزاء الجسم إلى العناصر ثم تتركب ثانيا ، ثم يصير حيوانا ، ثم يصير نطفة .. فهذا الاعتدال للنطفة على الخصوص. قلنا : ومن أين عرفتم أنه ليس فى مقدور الله جبر الخلل الواقع بطريق سوى هذا الطريق؟ ومن أين عرفتم أن هذا الّذي ذكرتموه طريق؟ فهل لكم مستند سوى مشاهدة الأحوال؟ وهل لكم فى إبطال غيره مستند سوى عدم المشاهدة؟! ولو لم تشاهدوا خلق الإنسان من نطفة لنفرت عقولكم عن التصديق به ففى الأسباب المغيرة لأحوال الأجسام عجائب يستنكرها من لا يشاهدها ، فمن منكر ينكر الخواص ، وآخر ينكر السحر ، وآخر ينكر المعجزة ، وآخر ينكر الإخبار عن الغيب ، وكل يعوّل فى إقراره على قدر مشاهدته ، لا على طريق معقول فى إثبات الاستحالة ، ثم من لم يشاهده ويستيقنه ينبئ أن نفرة طبعه عن التصديق كان لعدم المشاهدة ، وفى مقدورات الله عجائب لم يطلع عليها بشر ، فلم يستحل أن يكون لإعادة تلك الأجسام وإعادة مزاجها سبب عند الله ينفرد بمعرفته. وإذا أعاده عادت النفس متصرفة فيه كما كان بزعمهم فى الحياة.
والعجب ممن يدعى الحذق فى المعقولات ، ثم يشاهد ما فى العالم من العجائب والآيات ، ثم تضيق حوصلته عن قبول ذلك فى قدرة الله ؛ وإذا نسب ما لم يشاهده إلى ما شاهده لم ير أعجب منه. نعم! لو قال القائل : هذا أمر لا يدل العقل على إحالته (١) ، ولكن لا يدل أيضا على جوازه ، بل يتوقف عن الحكم فيه ، ويجوز أن يكون ثم محيل لا يطلع عليه أو مجوز لا يطلع عليه ، فهذا أقرب من الأول ، ويلزم بحكمه تصديق النبي صلىاللهعليهوسلم إذا أخبر عنه ، فإنه أخبر عما لا يستحيل فى العقل وجوده.
وعلى الجملة فقد اشتمل على أطوار الخلق ودرجاته قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
__________________
(١) إحالته أى : استحالته.