أمّا بعد ، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا ، وليكن همّك فيما بعد الموت ، والسّلام.
ولمّا انتهت هذه الرسالة الحافلة بالوعظ والإرشاد علّق عليها ابن عباس قائلا : ما اتّعظت بكلام قطّ اتعاظي بكلام أمير المؤمنين عليهالسلام (١).
وعلى أي حال فإنّ الذي أراه بمزيد من التأمّل أنّ اتّهام ابن عباس بالخيانة بعيد كلّ البعد عن سيرة هذا العملاق الذي تربّى في مدرسة الإمام عليهالسلام ، وأخلص للإمام كأعظم ما يكون الإخلاص.
فقد تولّى بصلابة مقاومة أعدائه ، والردّ عليهم بمنطقه الفيّاض وحججه الدامغة في حياة الإمام وبعد وفاته ، وهو أوّل من دعا له على المنابر (٢) ، وقد حزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن ، وبكاه أمرّ البكاء حتى فقد بصره (٣) ، وكان يتوسّل إلى الله تعالى به ، ويجعله واسطة في قضاء مهمّاته ، فكيف ينحرف عنه ، ويخون بيت المال!
وبالاضافة إلى ذلك فإنّ الإمام كان يكبر ابن عباس ويبجّله وقال فيه :
« لله درّ ابن عباس ، إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق » (٤).
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الشبهة تصدّى إلى إبطالها عمرو بن عبيد في
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٤ ، أدب الدنيا والدين ـ الماوردي : ٦٤.
(٢) مآثر الأناقة ٢ : ٢٣١.
(٣) الدرجات الرفيعة في ترجمة ابن عباس : ١١٨.
(٤) العقد الفريد ٢ : ٣٦٣.