التحقيق في المقدمة الأولى
وتحقيق الكلام في هذا المقام هو : إنه لا إشكال في أن لكل علم وحدة ، وبهذه الوحدة صار علما كما أنه لا إشكال في أن وحدته ثابتة له في المرتبة السابقة على التدوين والتأليف ، فعلم النحو لم يصبح علما واحدا لأنّ سيبويه ألّفه علما واحدا ، بل بقطع النظر عن المدوّن والمؤلف ، فإنّ لعلم النحو نحو وحدة ثابتة في أفقه المناسب له. وهذه الوحدة لا بد وأن تنشأ من أحد أمور ثلاثة وهي : إمّا وحدة الموضوع ، وإمّا وحدة المحمول ، وإمّا وحدة الغرض.
فإن كانت هذه الوحدة ناشئة من وحدة الموضوع : إذن يثبت أن لكل علم موضوعا. وإن فرض أنها كانت ناشئة من وحدة المحمول : إذن بحسب الحقيقة يكون هو موضوع العلم ، لأننا لا نريد بموضوع العلم إلّا ما كان يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما هو الحال في الفلسفة العالية كما تقدم. فإنّ البحث فيها عن الموجود بما هو موجود ، وعن تعيناته ، وتخصصاته ، وشئونه ، وكذلك الأمر في المقام ، فإنه أيضا يكون البحث هنا عن المحمول الكلي ، وعن تعيناته ، وتخصصاته ، وشئونه.
وإن فرض أن الوحدة كانت ناشئة بلحاظ الغرض : فإن كان هذا الغرض من سنخ النسب ، إذن فلا يعقل وحدته إلّا بوحدة طرفه ، فيرجع إذن إلى وحدة الموضوع ، أو المحمول. وإن لم يكن من سنخ النسب ، بل كان أمرا حقيقيا خارجيا معلولا للقضايا ، إذن فيكون هو موضوع العلم أيضا ، من قبيل المرض والصحة الذي هو الغرض من علم الطب. فإنّ تمام مسائل علم الطب ملحوظ باعتبار دخلها في الصحة ، والبحث فيها بالحقيقة عن أسباب الصحة وموانعها. والبحث عن الأسباب للشيء هو بحث عن العوارض الذاتية لذلك الشيء. كما يأتي توضيحه في بحث العوارض الذاتية.