أحدهما : أن اللام أدخلت في الأولى جوابا ، ثم حذفت في الثانية ، وهر مرادة في المعنى اكتفى بذكرها أولا ، وأنشد عليه :
حتى إذا الكلاب قال لها |
|
كاليوم مطلوبا ولا طالبا |
أراد لم أر كاليوم ، والكلاب صاحبا للأب ، والمطلوب الصيد ، والطالب الكلب يمدح كلابه ، أي لم أر في القوة كالطالب ، وفي الضعف كالمطلوب ، الثاني : أن اللام في المطعوم للتأكيد ، لأن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى المشروب ، ألا ترى إنك إنما تسقي ضعيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت نحو قول أبي العلاء ، أي دخلت تحت قوله :
إذا سقيت ضيوف الناس محضا |
|
سقوا أضيافهم شيعا زلالا |
أي إذا سقيت الضياف اللبن المحض ، وهو غير المخلوط بالماء سقوهم أضيافهم الماء الخالص ، فهو يذمهم على فعلهم ذلك ، فإن قلت : لم عقب نعمة المشروب بالشكر ، ولم عقب نعمة المأكول مع الإنسان مأمور في الشرع بالشكر ، عقيب الأكل وعقيب المشروب؟ فالجواب : إن الأكل والشرب متلازمان ، إذ لا يكون الشرب غالبا إلا عقيب الأكل ، فالأمر بالشكر إليه أمر بالشكر على الجميع ، أي أفلا تشكرون على الأمرين معا ، وخص هذا بالشكر ، وقال قبله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) ، ذلك محل اعتبار وتذكر ، وهذا محل شكر وحمد.
قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها).
عبر هنا بالإنشاء ، وقال : قيل (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) ، لأن ذلك الخلق مسبوق بنوع ومثال تقدمه ، وهذا ابتدائي إنشائي لم يسبق بشيء ، فلذلك عبر عنه بالإنشاء ، وقال هنا : (أَنْشَأْتُمْ) بلفظ الماضي ، كما قال تعالى (أَنْزَلْتُمُوهُ) ، فيرد السؤال المتقدم ، والجواب كالجواب ، والنار هل هي الجمرة ، أو عرض قام بها ، أو أي شيء هو الصواب ، إنما هي جواهر لطيفة تحللت بين أجزاء الفحمة ، بدليل أن الجمرة تستقر في الأرض ، والنار من قواعدهم ترتفع إلى فوق كنار السراج ، وبدليل عدم كونها في الحجر ، لأن أجزاءه متراصة لا خلل فيها ، فالنار تحلل أجزاءها ، وتحل فيها كما حلت الروح في الجسم ، مع أنها جوهر لطيف سكنه العلو ، وأما النار التي تخرج من الزناد ، فلم تكن فيه بل خلقها الله تعالى فيه عند القدح لئلا يلزم عليه مذهب القائلين بالكون والظهور ، ويحتمل أن تكون انفصلت من الزناد أجزاء تبدلت أعراضها عند القدح بإعراض النار ، وقول ابن عطية في قوله (شَجَرَتَها) قيل : الشجرة ، هي النار نفسها لا تقال يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه ، لأنه من إضافة الأعم إلى الأخص ، وهو جائز عندهم.