فصل
وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة.
منها : أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه. فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة. وهكذا المنافق ، لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه ، وتصديق جازم. كان ما معه من النور كالمستعار.
ومنها : أن ضياء النار يحتاج دوامه إلى مادة تحمله ، وتلك المادة للضياء بمنزلة الحيوان. فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح ، يقوم بها ويدوم بدوامها. فإذا لم توجد مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها.
ومنها : أن الظلمة نوعان ، ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور ، وظلمة حادثة بعد النور. وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه. فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة ، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار ، الذي حصل في الظلمة بعد الضوء ، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط.
ومنها : أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة ، وأنهم يعطون نورا ظاهرا ، كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا. ثم يطفأ ذلك أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ، وبقوا في الظلمة على الجسر ، لا يستطيعون العبور. فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر. فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح ، وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه. فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار ، وبحالتهم يوم القيامة عند ما يقسم النور.
ومن هاهنا يعلم السر في قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل أذهب الله نورهم.