وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة ، وأنها : هل نقلت عن مسماها في اللغة ، فصارت حقيقة شرعية منقولة استعملت في هذه العبادة مجازا ، للعلاقة بينها وبين المسمي اللغوي ، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائع؟.
وعلى ما قررناه : لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء ، إما دعاء عبادة وثناء ، أو دعاء طلب ومسألة ، وهو في الحالين داع. فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء ، فتأمله.
إذا عرفت هذا. فقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) يتناول نوعي الدعاء ولكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة. ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.
ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وأن الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله ، وقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.
أحدها : أنه أعظم إيمانا ، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال : إن الله يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا.
وثانيها : أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات ، وإنما تخفض عندهم الأصوات ، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع صوته لديهم مقتوه ، ولله المثل الأعلى. فإذا كان ربنا يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.