والإذعان ، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن. فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول ، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول ، كما قال : ٦١ : ٥ (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه ، فلا يمكنه من الإقبال إليه. ولتكن قصة إبليس منكر على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع. فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية. فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها ، صغيرها وكبيرها. وصار هذا الإعراض والكفر عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق. فمن عقاب السيئة السيئة بعدها. كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل : فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين ، فكيف ينعي ذلك عليهم؟
قيل : هم دائرون بين عدله وحجته عليهم ، فمكنهم وفتح لهم الباب ، ونهج لهم الطريق ، وهيأ لهم الأسباب. فأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، ودعاهم على ألسنة رسله. وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر ، والنافع والضار ، وأسباب الردى وأسباب الفلاح. وجعل لهم أسماعا وأبصارا ، فآثروا الهوى على التقوى ، واستحبوا العمى على الهدى ، وقالوا : معصيتك آثر عندنا من طاعتك ، والشرك أحب إلينا من توحيدك ، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك. فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم ، وانصرفت عن طاعته ومحبته. فهذا عدله فيهم ، وتلك حجته عليهم. فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا ، فسده عليهم اضطرارا. فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم ، وولاهم ما تركوه ومكنهم