لمّا أسلم «قل : اللهم ألهمني رشدي ، وقني شر نفسي».(١)
وقد جعل صاحب المنازل والإلهام هو مقام المحدثين. قال : وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة. واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه ، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.
قلت : التحديث أخص من الإلهام : فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان ، فأما التحديث : فالنبي صلىاللهعليهوسلم قال فيه : «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر» يعني من المحدثين. فالتحديث إلهام خاص. وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين ، كقوله تعالى : ٢٨ : ٧ (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وقوله : ٥ : ١١١ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) وإما من غير المكلفين كقوله تعالى : ١٦ : ٦٩ (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة : ربما وقعت نادرة كما تقدم. والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه ، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد ، يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا : أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر ، وعام كل واحد قد يقع كثيرا ، وخاصة قد يقع نادرا ، ولكن الفرق الصحيح : أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل ، وأما الإلهام فموهبة مجردة ، لا تنال بكسب البتة.
[ثم ذكر فصولا أربعة تكلم فيها عن درجات الإلهام الثلاثة. ثم قال].
__________________
(١) أخرجه البخاري باب التاريخ عن أبي هريرة ٤ / ١ / ٢ بلفظ : رؤيا الرجل الصالح ...