فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به. فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح. فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس. فشر النفس يولد الأعمال السيئة ، فاستعاذ من صفة النفس ، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة. وهذان جماع الشر ، وأسباب كل ألم. فمتى عوفي منهما عوفي من الشر بحذافيره.
ويترجح الثاني : بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل ، وأسبابها شر النفس ، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها.
والقولان في الحقيقة متلازمان. والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر.
فصل
ولما كان الشر له سبب : هو مصدره ، وله مورد ومنتهى. وكان السبب إما من ذات العبد ، وإما من خارج. ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره : كان هنا أربعة أمور : شر مصدره من نفسه ، ويعود على نفسه تارة ، وعلى غيره أخرى. وشر مصدره من غيره ، وهو السبب فيه. ويعود على نفسه تارة ، وعلى غيره أخرى ـ جمع النبي صلىاللهعليهوسلم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق رضي الله عنه : أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه «اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، ربّ كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، وأن اقترف على نفسي سوءا ، أو أجرّه إلى مسلم» فذكر مصدري الشر ، وهما النفس والشيطان وذكر مورديه ونهايتيه ؛ وهما عوده على النفس ، أو على أخيه المسلم. فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظ وأحضره وأجمعه وأبينه.