السبب الخامس : فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه ، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له. فلا يلتفت إليه ، ولا يخافه ، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.
وهذا من أنفع الأدوية ، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه ، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه ، بل انعزل عنه لم يقدر عليه. فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه ، حصل الشر وهكذا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبّثها به ، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما ، لا يفتر عنه ، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا. فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار. ودام الشر ، حتى يهلك أحدهما. فإذا جبذ روحه منه ، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به ، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر ، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به. بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا. فإن الحسد كالنار ، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا.
وهذا باب عظيم النفع لا يلقّاه إلّا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية ، وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه ، وتعلق روحه به ، ولا يرى شيئا آلم لروحه من ذلك ، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة ، التي رضيت بوكالة الله لها ، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها. فوثقت بالله ، وسكنت إليه ، واطمأنت به ، وعلمت أن ضمانه حق ، ووعده صدق ، وأنه لا أوفى بعهده من الله ، ولا أصدق منه قيلا. فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم ، وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها ، أو نصر مخلوق مثلها لها ، ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس :
وهو الإقبال على الله ، والإخلاص له ، وجعل محبته ورضاه والانابة