ويظهر به ايضاً ما في قول آخرين ان المراد بالناس بنو اسرائيل حيث ان الله يذكر انهم اختلفوا في الكتاب بغياً بينهم ، قال تعالى : « فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » الجاثية ـ ١٦ ، وذلك أنه تفسير من غير دليل ، ومجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم .
وأفسد من ذلك قول من قال : إِن المراد بالناس في الآية هو آدم عليهالسلام ، والمعنى ان آدم عليهالسلام كان أُمة واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته ، فبعث الله النبيين « الخ » ، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه .
ويظهر به ايضاً فساد قول بعضهم : إِن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى : « وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا » الفتح ـ ٧ ، فهو دال على الثبوت ، والمعنى : ان الناس أُمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعاً فإِن الانسان مدني بالطبع لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده ، لكثرة حوائجه الوجودية ، واتساع دائرة لوازم حياته ، بحيث لا يتم له الكمال إِلا بالاجتماع والتعاون بين الافراد والمبادلة في المساعي ، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره ، ويأخذ بدله بقية ما يحتاج اليه ويستحقه في وجوده ، فهذا حال الانسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتاً من الأوقات ، يدل عليه ما وصل الينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني وكونه اجتماعياً مدنياً لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير ان ذلك يؤدي إِلى الاختلاف ، واختلال نظام الاجتماع ، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف ، وبلغها اليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين ، وإِنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف .
فمحصل المعنى ان الناس أُمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف ، فلذلك بعث الله الانبياء وانزل الكتاب .
ويرد عليه اولاً : انه اخذ المدنية طبعاً أولياً للانسان ، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازماً ذاتياً لهذا النوع ، وقد عرفت فيما مر ان الامر ليس كذلك ، بل امر تصالحي اضطراري ، وان القرآن ايضاً يدل على خلافه .
وثانياً
: ان تفريع بعث الانبياء وإِنزال الكتب
على مجرد كون الانسان مدنياً بالطبع غير مستقيم إِلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إِلى الاختلاف
،