فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي ، وان النبوة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني .
واما ثانياً : فلأن المأثور من كلام هؤلاء الانبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعيسى وموسى وإِبراهيم ونوح « ع » وغيرهم ـ وبعضهم يصدق بعضاً ـ وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن ، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق ، فإِن صريح الكتاب والسنة وما نقل من الانبياء العظام عليهم السلام أن هذه الحقائق وآثارها امور خارجة عن سنخ الطبيعة ، ونشأة المادة ، وحكم الحس ، بحيث لا يعد إِرجاعها الى الطبيعة وحكمها إِلا تأويلاً بما لا يقبله طبع الكلام ، ولا يرتضيه ذوق التخاطب .
وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان .
فان قلت : فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمراً خارقاً للعادة فإِنه أمر لا يعرفه أفراد الانسان من انفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم ، فكيف يمكن أن يسوق الجميع الى اصلاح شأنهم ويهدي النوع الى سعادته الحقيقية ؟ ! وقد مر سابقاً أن كل ما فرض هادياً للانسان الى سعادته وكماله النوعي وجب أن يهديه بالارتباط والاتحاد مع فطرته ، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الانسان اليه .
قلت
: كون هذا الأمر خارقاً للعادة مما لا
ريب فيه ، وكذا كونه أمراً من قبيل الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه ، لكن العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة ولا الأمر المستور عن الحواس الظاهرة وانما
يدفع المحال ، وللعقل طريق الى تصديق الامور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة
فان له أن يستدل على الشيء من طريق علله وهو الاستدلال اللمي ، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الإني فيثبت بذلك وجوده ، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن أن يستدل عليها بأحد طريقين : فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي