فالعين واليد وإِن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً ، لكن الخلقة إِنما جهز الانسان بالبصر ليميز به الاشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الانسان لنفسه ، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه ، فإِذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر اعضائه فيقاسي أولاً كداً وتعباً لا يتحمل عادة ، وينقص من أفعال سائر الاعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير ، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الاعضاء الاخر كان في ذلك إِصلاح حال الجميع ، وعاد اليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربما زاد على المآت والالوف بما يورث من إِصلاح حال الغير ، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه ، وإِيجاد المحبة في قلبه ، وحسن الذكر في لسانه ، والنشاط في عمله ، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إِلى المنفق لا محالة ، ولا سيما إِذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك ، فهذا حال الانفاق .
وإِذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلف ، فإِن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إِلا لفائدة عائدة الى نفس المنفق كإِنفاق الغني للفقير لدفع شره ، أو إِنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه ، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه ، ربما أورث في نفس الفقير أثراً سيئاً ، وربما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى ، لكن الانفاق الذي لا يراد به إِلا وجه الله ولا يبتغي فيه إِلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إِلا الجميل ولا يتعقبه إِلا الخير .
قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى « الخ » ، الاتباع اللحوق والالحاق ، قال تعالى : « فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ » الشعراء ـ ٦٠ ، أي لحقوهم ، وقال تعالى : « وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً » القصص ـ ٤٢ ، أي ألحقناهم . والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه : أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك ، والاصل في معناه على ما قيل القطع ، ومنه قوله تعالى : « لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » فصلت ـ ٨ ، أي غير مقطوع ، والاذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير ، والخوف توقع الضرر ، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع .