واما ما قيل : ان المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإِن الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه ، فيبعده : ان الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية والرخصة .
قوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ، الفجر فجران ، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب اذا شاله ، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الافق الشرقي اذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الافق الى ثمانية عشر درجة تحت الافق ، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضاً مستطيلاً على الافق كالخيط الابيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ، ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس .
ومن هنا يعلم ان المراد بالخيط الابيض هو الفجر الصادق ، وان كلمة من ، بيانية وان قوله تعالى : حتى يتبيّن لكم الخيط الاسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الافق من الفجر ، المجاور لما يمتد معترضاً معه من سواد الليل بخيط أبيض يتبيّن من الخيط الاسود .
ومن هنا يعلم أيضاً : ان المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فان ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط ابيض ولا خيط اسود .
قوله تعالى : ثم اتموا الصيام الى الليل ، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام الى الليل بعد تبيّنه استغنى عن ذكره ايثاراً للايجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه الى الليل ، وفي قوله : اتموا دلاله على انه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير ان تكون مركبة من أُمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة ، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث ان الاول انتهاء وجود ما لا يتألف من اجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكل من اجزائه اثر مستقل وحده ، قال تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » المائدة ـ ٣ ، فإن الدين مجموع الصلوة والصوم والحج وغيرها التي لكل منها اثر يستقل به ، بخلاف النعمة على ما سيجىء بيانه إنشاء الله في الكلام على الآية .