إذا تقديم الاستصحاب على هذه الأصول من أجل أنّ دليله مفاده التعبّد ببقاء اليقين ، وما دام اليقين موجودا فيرتفع موضوع البراءة والطهارة ؛ لأنّ أدلّتهما مغيّاة بعدم العلم ، فإذا حصل العلم ارتفع الموضوع فيهما ، وهو معنى الحكومة (١).
فإن قيل : كما أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع أدلّة البراءة وأصالة الطهارة كذلك هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.
كان الجواب : أنّ الشكّ وإن كان مأخوذا في موضوع أدلّتها جميعا ولكنّ دليل الاستصحاب هو الحاكم ؛ لأنّ مفاده التعبّد باليقين وإلغاء الشكّ ، بخلاف أدلّة الأصول الأخرى.
وقد يشكل على الحكومة بأنّ دليل البراءة والطهارة وإن كان الشكّ وعدم العلم مأخوذا فيه ، بحيث يرتفع موضوعها بحصول العلم ، إلا أنّ دليل الاستصحاب قد أخذ الشكّ في موضوعه أيضا ، كما في قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، وهذا يعني أنّه بحصول العلم يرتفع موضوعه أيضا ، فيكون التوارد من الجانبين لا من جانب واحد ، وبذلك يحصل التعارض ويحكم بالتساقط ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ما دام الشكّ مأخوذا فيهما على حدّ واحد.
ويجاب عن ذلك بأنّ الشكّ وإن كان مأخوذا في دليل الاستصحاب كالبراءة والطهارة ، إلا أنّه مع ذلك يحكم بتقديم الاستصحاب عليهما ؛ وذلك لما تقدّم من أنّ مفاد دليل الاستصحاب والمجعول فيه هو الإحراز التعبّدي ببقاء اليقين وإلغاء الشكّ أي الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة في الجانب العملي ، بخلاف أدلّة البراءة والطهارة فإنّ المجعول فيهما ليس إلا تسجيل الوظيفة العمليّة والتعذير فقط ، من دون أن يكون فيهما أيّ جانب إحرازي ، وهذا معناه أنّ الاستصحاب بمفاده يلغي الشكّ فيرتفع به
__________________
(١) نعم ، بالنسبة للتعارض بين الاستصحاب وقاعدة اليد والفراغ والتجاوز تكون هي المقدّمة على الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ رفع اليد عنها يعني إلغاءها دائما ، لأنّه في موردها الغالب وجود الاستصحاب فيكون تقديمه بحكم الإلغاء لها ، وتخصيصها بالفرد النادر جدا خلاف الحكمة من تشريعها ، فتكون مقدمة لوجود نكتة الأخصيّة فيها لا الأخصيّة المصطلحة.