والآخر : التعارض المستقرّ ، والمقصود به عدم إمكانيّة الجمع العرفي بينهما ، وهذا حكمه التساقط أو التخيير أو الترجيح.
وسوف نتحدّث بالتفصيل عن هذين النحوين ، ولكن هنا نشير إليهما بصورة مختصرة فنقول :
ففي حالات التعارض المستقرّ يسري التعارض إلى دليل الحجّيّة ؛ لأنّ ثبوت الحجّيّة لكلّ منهما ـ كما لو لم يكن معارضا ـ يؤدّي إلى إثبات كلّ منهما ونفيه في وقت واحد ؛ نظرا إلى أنّ كلاّ منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر ، ويبرهن ذلك على استحالة ثبوت الحجّيّتين على نحو ثبوتهما في غير حالات التعارض ، وهذا معنى سراية التعارض إلى دليل الحجّيّة لوقوع التنافي في مدلوله.
النحو الأوّل : التعارض المستقرّ بين الدليلين الظنّيّين فمؤدّاه سريان التعارض من الخبرين مثلا إلى الدليل الدالّ على حجّيّتهما ، وهو دليل الحجّيّة العامّ ، فإنّ دليل حجّيّة الخبر شامل لكلا الخبرين على حدّ واحد لاستجماعهما لشرائط الحجّيّة في أنفسهما. وعليه ، فشموله لأحدهما فقط يؤدّي إلى الترجيح من دون مرجّح وهو باطل ، وعدم شموله لهما خلاف ما فرضناه من كونهما جامعين لشرائط الحجّيّة الذي يعني أنّ موضوع الحجّيّة موجود في كلّ منهما.
ومع ثبوت الموضوع لا بدّ من ترتيب الحكم عليه ، إلا أنّ شموله لهما معا يؤدّي إلى محذور لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك لأنّ كلاّ من هذين الدليلين كما يثبت مؤدّاه بحسب مدلوله المطابقي فهو ينفي مؤدّى الآخر بحسب مدلوله الالتزامي ، فيقع التعارض والتنافي بلحاظ المدلول المطابقي في كلّ منهما مع المدلول الالتزامي فيهما.
فإذا ورد خبر في وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة وورد خبر في وجوب الظهر في هذا اليوم ، كان الخبر الأوّل دالاّ بالمطابقة على وجوب الجمعة وبالالتزام على نفي وجوب الظهر ؛ لأنّه لمّا كان حاكيا وكاشفا عن الواقع فهو يدّعي أنّ الملاك الأهمّ في الواقع هو صلاة الجمعة دون غيرها ، وهكذا الحال بالنسبة للخبر الآخر ، وحينئذ فالالتزام بهما معا يؤدّي إلى ثبوت الحجّتين المتنافيتين وهو مستحيل ؛ لأنّه لا يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتكاذبين معا ، ومن هنا سوف يسري التعارض إلى دليل الحجّيّة ؛ لأنّ دليل الحجّيّة بتطبيقه على الخبر الأوّل يفيد التعبّد بمدلوله ، وبتطبيقه على الخبر الثاني