الحديث حقّه من الرواية والدراية أمر مهم لمن أراد التفقّه في الدين ، إذ مدار أكثر الأحكام الشرعية عليه ، وقد كان للسلف الصالح (رضوان الله عليهم) مزيد اعتناء بشأنه ، وشدّة اهتمام بروايته وعرفانه ، فقام بوظيفته منهم في كلّ عصر من تلك الأعصار أقوام بذلوا في رعايته جهدهم ، وأكثروا في ملاحظته كدّهم ووكدهم ، فلله درهم إذ عرفوا من قدره ما عرفوا ، وصرفوا إليه من وجوه الهمم ما صرفوا ، ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا حقّه ، وجهلوا قدره ، فاقتصروا من روايته على أدنى مراتبها ، وألقوا حبل درايته على غاربها.
ثم أتاح الله سبحانه بمقتضى حكمته من عرف قدره ، وبذل في خدمته وسعه ، فعمّر منه الدارسة ، وجدّد معالمه الطامسة ، وأيقظ من مراقد الغفلة رجالاً فهمّهم إسراره ، وأراهم بعين البصيرة أنواره ، فرغبوا في سلوك سبيله ، وجهدوا على إحرازه وتحصيله ، لكنّهم حيث انقطعت عنهم بتلك الفترة طريق الرواية من غير جهة الإجازة قلّت حظوظهم من الدراية ، ولاحتياجه والحال هذه إلى طول الممارسة ، وإكثار المطالعة والمراجعة ، والمتحملون لهذه الكلفة أقلّ قليل ، والأكثرون إنّما يمرّون على معاهدة عابري سبيل (١) ، انتهى.
قلت : أمّا اهتمام السلف في هذا الفن الشريف ، فهو أمر معلوم لمن راجع التراجم والإجازات ، حتى قال فخر المحققين في آخر الإيضاح في مسألة عدم تحمّل العاقلة من الجراحات إلاّ الموضحة وما فوقها ما لفظه :
__________________
(١) حكاها عنه المجلسي في البحار ١٠٩ : ٣.