أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.
(٣) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد ، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها ، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة ، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند فهم المحكم ، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده ، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة ، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ».
(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة ، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول ، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها ، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.
ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية ، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر ، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ ، والخطأ قرين الخطر.
وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت : يا رسول الله