ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر ، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات ، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.
فالوفاء بها آية الدين البينة ، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران ، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض ، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.
والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة النفاق فقال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أوتمن خان».
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضى الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».
فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود ، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا ، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط ، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيىّ بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها ، وأخذوا على ذلك الرّشا.
وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال : «كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها ، فقدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألك بينة؟ قلت لا ، فقال لليهودى احلف ، فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالى ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الآية».
قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك ، والعمدة فى ذلك ما ثبت في الصحيح.